Al Jazirah NewsPaper Thursday  24/04/2008 G Issue 12992
الخميس 18 ربيع الثاني 1429   العدد  12992
أحلام صفوان داحول
متتاليات تعزف لحنها على ذات المقام!

علي الكردي

يشكّل العنصر الإنساني، بوصفه جسداً مفعماً بالدلالات التعبيرية والجمالية، التيمة الأساسية للاستيهامات الحلمية، التي تتكرّر في أعمال التشكيلي السوري صفوان داحول في متتاليات، تتمظهر بأشكالٍ مختلفة، حيث تنساب تلك الخطوط المنحنية، اللّينة التي تحدّد معالم الجسد الإنساني، الذي يتكوّر وينثني على ذاته، وكأنه يود العودة إلى الرحم الأولى، مشرعاً الأسئلة على معنى الوجود والعدم، والسعادة، والحلم.. بوصفها أسئلة تأمّلية وجودية، لا ينفك الفنان عن طرحها بصياغات مختلفة تعزف لحنها على ذات المقام.

يمكن القول: إن الفنان داحول الذي أكمل دراساته العليا في بلجيكا، وحصل على شهادة دكتوراه من المدرسة العليا للفنون فيها عام 1996، بات مع عددٍ من مجايليه، ممن أكملوا دراساتهم العليا في الغرب، وعادوا إلى بلدهم سورية في تسعينيات القرن المنصرم، مثل نزار صابور، وأحمد معلا، وحمود شنتوت، وباسم دحدوح.. علامات بارزة في المحترف التشكيلي السوري، ضخّت دماءً جديدة، أضافت الكثير لهذا المحترف.

في معرضه الدمشقي الأخير في غاليري (أيام)، ينسج الفنان داحول على ذات التيمة متتاليات جديدة، قد لا يكتشف المتلقي العادي فيها، الإضافات التي أضافها الفنان على أعماله السابقة، إلاّ إذا كان متابعاً مدقّقاً لا تخفى عليه العناصر الجديدة المتغيرة، التي بدأت تغزو لوحة داحول على صعيد اللون، وتوزيع المساحات، والتناقض بين العتمة والضوء، وبناء اللوحة بشكلٍ عام، بل يمكن القول: إن ثمة لوحات (البورتريهات الجدارية) تؤشر إلى إرهاصات لمرحلة قادمة، قد تكون مختلفة في تجربة الفنان، حتى على مستوى التيمة المتكررة لموضوعاته (الجسد الإنساني)، وبالتالي قد تؤسس لمرحلة قادمة يمكن أن تختلف في الشكل والمضمون عن مراحله السابقة، لكن من المعروف أن مثل هذه النقلات في تجربة أي فنان أصيل تمر في مسار معقد، وصيرورة طويلة، تتضافر خلالها عوامل عديدة، حتى تتحقّق تلك النقلة، بشكلٍ تراكمي وغير مفتعل، دون أن يعني هذا قطيعة كاملة مع ماضي التجربة، فالجديد يُولد دائماً من رحم الماضي.

السؤال الذي يفرض نفسه على ضوء المقدمات السابقة: ما هو الجديد الذي أضافه صفوان داحول في معرضه الأخير على تجاربه السابقة؟! بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أن الفنان داحول يصر ويؤكد على تسمية معرضه الجديد (حُلُمْ)، وبالتالي هو لم يغادر أحلامه، بل يضيف متتاليات جديدة إلى أحلامه السابقة، وإذا كانت الأحلام هي سيّالة من الصور والأفكار والعواطف، والهواجس، وربما الكوابيس، وتندرج في هذا السياق أحلام اليقظة، فقد تجسّدت تلك الأحلام في تكويناته على شكل جسد، أو أجساد إنسانية، تشي ملامحها، وحركاتها وهي تندغم وتتداخل مع بعضها في كتل متلاصقة في تعبيرات جمالية وتشكيلية ولونية إلى تدفق الحالة الحلمية بتعبيراتها المتعدّدة. في المقارنة بين قديمه وجديده يمكن أن نكتشف أنه بات يميل إلى التلخيص في لوحته الجديدة، وبالتالي تخفّفت لوحته من عبء التفاصيل التي كانت تحتشد بها.

ونلاحظ أنه أصبح يكتفي بمقطع من الجسد (لا الجسد كله) مع التركيز على انسيابية الحركة، وخاصة الحركة التعبيرية الراقصة للأيدي، التي تختزن موسيقى هادئة، تعبر عن المزاج الداخلي للفنان، وعوالمه الداخلية الحالمة، التي تأخذنا إلى ما فوق الواقعي، وتحلّق بنا بعيداً.

على صعيد التناقض بين الظل والنور، يبرز الاختلاف في أعماله الجديدة صارخاً وصريحاً، فثمة مساحات مضيئة، وأخرى معتمة، حيث يسلّط الضوء على الوجوه والأيدي وأحياناً الأرجل، والظل على بقية الجسد على خلفية معتمة للوحة، بينما كان يتوزّع الضوء في أعماله القديمة على شكل بؤر هنا وهناك، مع ظلال متدرجة للتكوينات الجسدية على خلفية مضيئة للوحة.

من جهة أخرى ثمة اختلاف واضح أيضاً بين قديمه وجديده على صعيد اللون.. فقد بات اللون الأسود الصريح يشغل مساحات كبيرة في لوحته الجديدة، بينما كانت مشتقات الترابي بتدرجاته هي الألوان الطاغية على لوحته القديمة، وهذا الأمر قد يدلّل على أن الفنان أصبح أكثر استقراراً، وربما أقل شكّاً، وأكثر وضوحاً في مواقفه وتأملاته تجاه ما يضجُّ به عالمنا من صراعات، وتناقضات، وانشطارات باتت أكثر حدّة، وبالتالي انصهرت - ربما - في العقل اللاإرادي للفنان على شكل هواجس، أو تخيلات.. أو أحلام يقظة عبرت عن نفسها بهذه التكوينات الصريحة، التي تشي بنظرة الفنان إلى العالم من حوله، بكل صخبه، وخرابه، وقبحه، وجمالياته، وبنظرته في آن معاً إلى ذاته التي تعيش - ربما - هذا الانشطار والتشظي الحاد بين الأمل الجامح الحالم بحياة مشتهاة، وبين واقع بائس مليء بالسواد والموت، والخوف، ولاسيما أن الأمرين صارا يتعايشان جنباً إلى جنب بكثير من الحدّة: الموت والحياة.. الضوء والعتمة.. الخير والشر.. إلخ.

والمسألة هنا بظني ليست عودة إلى الثنائيات التبسيطية التي تجاوزها الزمن، بمقدار ما هي تلمّس - على ما أظن - لحدّة الصراعات في واقعنا، التي لم تعد تخفي نفسها خلف براقع، أو أقنعة، أو تدرجات لونية.. وبالتالي من المنطقي أن يطفو على السطح الأسود والأبيض في صراحتهما اللونية الجارحة، وأن يتوزع الضوء والعتمة على مساحات واضحة لا تخفي هذا القلق المشروع.. الصارخ!




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد