Al Jazirah NewsPaper Thursday  24/04/2008 G Issue 12992
الخميس 18 ربيع الثاني 1429   العدد  12992

وا بلاغتاه

 

اجتمع مع زملائه المعلمين أصحاب الاختصاص، قبيل بداية العام الدراسي لتوزيع إرث المواد بينهم بالتساوي، أخذ كلٌ منهم ما يروق له، وما يُتقن جمع معلوماته، ويُحسن قسمتها في الدرس، وطرحها للطلاب.

اقتسموا الإرث بينهم، وبقيت مادة (البلاغة) طريحة لم تتناولها يد أحدهم، ثم استقر رأيهم على رجلٍ منهم، خلعوا عليه أوصافاً لم يحلم بها (الجرجاني) في يوم من الأيام؛ وأوسعوه مدحاً ليكفيهم هذه المؤونة، فقال (متفاصحاً): أنا لها.. ثم أردف متمثلاً بهذا البيت الشعري - الذي لا يمت بصلةٍ لحالهم التي هم فيها:

إن الفتى من يقول: ها أنذا

ليس الفتى من يقول: كان أبي

فأكد لهم بما لا يدع في نفس أحدهم شكاً ببلاغته وسرعة بديهته.

بدأ العام الدراسي وبدأ معه (صاحبنا) بأخذ عدته استعداداً للتحليق بطلابه في فضاء (البلاغة) الفسيح، والسفر بهم إلى عالمها الفصيح، وتأهب لتلك الرحلة بالعكوف على القراءة في (أمهات كتبها)، والإفادة من (آبائها المؤلفين).

حار الأستاذ.. كيف يبدأ؟ وبأي الأبيات يبدأ؟ ثم اجتهد فقرر أن يبدأ بأبيات الغزل؛ لأنها تناسب فئة الشباب، ثم احتار (أستاذنا) مرة أخرى.. بأي روائع الغزل يستفتح (شهيّة طلابه) للدرس، وبعد مداولة ومشاورة مع نفسه، وقع الاختيار على أبيات عروة بن أذينة، التي تقطر رقة وعذوبة، فاستهل الدرس بإلقائها:

إن التي زعمت فؤادك مَلها

خلقت هواك كما خلقت هوى لها

منعت تحيتها فقلت لصاحبي:

ما كان أكثرها لنا وأقلها

وما إن أكمل البيت الثاني حتى رفع أحد طلابه يده، فاستبشر المعلم وقال في نفسه: يبدو أن سحر البيتين قد عمل في نفوس الطلاب، فاستثار هذا الطالب لرفع يده، ثم أذن لطالبه بالحديث، فقال الطالب (المستثار): من صاحب الشاعر المقصود بقوله: (فقلت لصاحبي..)؟ عندئذٍ وجمّ (المعلم البليغ)، واصطرعت الحروف في فمه، فبادر في الصلح بينها، ثم قال: أما استوقفك يا بني من جمال البيتين إلا أن تسأل عن صاحب الشاعر؟! فقال الطالب: أعتذر يا أستاذ إن كنت قد أحرجتك وسألتك عن شيء لا تعرفه! فقال المعلم: لا، يا بني، لكنك سألتني عن شيء لم أتنبه له، ولم يأبه له أرباب البلاغة والأدب لأنه لا فائدة لهم من معرفة صاحب الشاعر، وأظنك صاحب سبق بهذا السؤال يا صغيري. وبعدما خرج معلم البلاغة ظل يفكر في إعادة تأسيس علم البلاغة عند الطلاب، فاهتدى إلى طريقة ظن أنها سترسخ أهمية البلاغة في نفوس طلابه، وهي أن يأتي بأبياتٍ عميقة المعنى وأخرى سطحية المعنى ليقارن بينها أسلوباً وفكرة عسى أن يجد بغيته فيها.

وفي درس البلاغة دخل المعلم متأبطاً الكتاب، ومستعداً لخوض المعمعة ضد (بلادة) الطلاب، وقد عزم على أن يؤوب منها منتصراً. وقف أمامهم، وشهر تحديه قائلاً: من يقارن لي بين البيتين الآتيين؟ ويبين أيهما أبلغ؟ فاشرأبّت أعناق الطلاب، وشخصت أبصارهم، وتفتحت أسماعهم، للظفر بالتحدي، ثم أردف المعلم قائلاً: مدح النابغة الذبياني ملك المناذرة النعمان بن المنذر بقوله:

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

ووصف أحد الشعراء قوماً جلوساً حول الماء بقوله:

كأننا والماء من حولنا

قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ

ثم أعاد صيغة (تحديه) قائلاً: أي البيتين أبلغ؟

فرفع (أنبهُ) الطلاب يده - وحاشاهم أن يكون منهم نبيه -، فقال - بثقة عمياء - : البيت الثاني أبلغ؛ لأن الشاعر قد وصف الجلسة وصفاً صادقاً خالياً من المبالغة، أما البيت الأول فإن نفاق الشاعر قد جره إلى المبالغة في مدح الملك. حوقل المعلم واسترجع في نفسه، ثم حاول أن يجمع قواه الفكرية، التي تفرقت بعد سماع نقد الطالب (المنقود)، فقال: لكن النقاد قد خالفوا رأيك، وحكموا على البيت الثاني ب(سطحيّة المعنى)؛ لأنه (قد فسّر الماء بعد الجهد بالماء)، أما البيت الأول فإن التشبيه قد أضفى عليه قوة في المعنى ووضوحاً، ومنحه حسناً وجمالاً. فرفع الطالب يده وقال: وماذا يقصد النقاد ب(سطحية المعنى)؟ فقال المعلم: يقصدون بها الوضوح المفرط في المعنى وعدم عمقه، فرفع طالب آخر يده وقال: هذا ما نريده يا أستاذ، لقد مللنا من الأبيات (المعقدة) التي لا نفهم منها غير حروفها، فقال (المعلم البليغ):

وكل يميل إلى شكله

كميل الخنافس للعقرب

فقال الطلاب: (صح لسانك) يا أستاذ، وبعدئذ رن جرس صفارة (البشرى)؛ لتزف إلى المعلم البشرى بانتهاء الدرس.

وفي ذات نشوة غاب عقل الأستاذ عن طلابه، وأوغل في أعماق أبيات من الشعر كان يلقيها عليهم، وقد لامس جمال تلك الأبيات شغاف قلبه، فأنطقه الله الذي أنطق كل شيء، وخرجت منه كلمة الإعجاب والانبهار - ممدودة: الله.. ولم يستفق (بليغنا الأستاذ) إلا على قهقهات ضحك طلابه الذين لم يفقهوا كلمة من تلك الأبيات التي طرب لها (أستاذ البلاغة) حينئذ عاد إلى (الأستاذ البليغ) وعيه، واستيقن أنه في (جبل) وطلابه في (وادٍ) فأخذت شفاهه تتمتم بقول الخليل بن أحمد:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني

أو كنت أعلم ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني

وعلمتُ أنّك جاهل فعذرتكا

ولما (بلغ السيل الزبى) عند المعلم البليغ ظل شارد الفكر والنظر، يستعيد ذكريات جهده وبذله في مادة البلاغة تحصيلاً وتعليماً، ثم أطلق صرخة من أغوار تلك الذكريات قائلاً: وا بلاغتاه.. وا بلاغتاه.. وحين سمع طلابه هذه الصرخة أرادوا أن يقلدوا (أستاذهم)، فخانهم التعبير و(نضحوا) بما في أدمغتهم فصاحوا: وا بلاهتاه.. وا بلاهتاه...

فهد بن علي العبودي

الدلم ص ب 1690 الدلم 11992


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد