Al Jazirah NewsPaper Thursday  24/04/2008 G Issue 12992
الخميس 18 ربيع الثاني 1429   العدد  12992
لما هو آتٍ
لي معها حكايات (4)
د. خيريّة إبراهيم السّقاف

دروب السفر على ما فيها من منغّصات القلق والنّصب لكنها تمنح التحفُّز وتطلق أجنحة الروح الكامنة ...

تعري الإنسان أمام نفسه فإمّا إلى الرّكون وإمّا إلى الأتون ...

الرّكون لمعطياتها ومتاحاتها ... والأتون عندما تتّقد في الخاطر عشرات الأمنيات لكن ثمة ما يلجمها ..

فليس كلُّ أطعمة الدروب سليمة، ولا جميع المقاعد نظيفة، ولا أي المنافذ للجنان ولا كل الأبواب للجحيم ...

دروب السفر بمثل ما توصلك لبقعة تباغتك بمناخها المختلف، فإنّها توصلك لسحنات في رؤوس تنطوي على أنسجة أفكار لا توافقك، أو قلوب لا تنطبق على ما يوافق نبضك ... وربما التماثل والتوافق المثريان ...

دروب السفر تعلِّمك كيف تكون يقظاً، ليس لحقيبتك التي تحمل لباسك لتجد ما تبدله حين يعتريك منها غبار أو دكن، ولا لمحفظة نقودك كي لا تفقدها فتجوع في غربتك ... بل هي تعلِّمك متى ترسل نظرتك لصفحة ما أمامك، ومتى تلجم نظرتك عن نقطة فيها ...

دروب السفر تعرِّفك الفروق بين طقس دافئ تخرج منه، وآخر ثلجي يحتويك وأنت قادم إليه ...

دروب السفر كتاب فيه تمايز الأصوات والغايات ...

وفيه مفارق الطرق ومرافئ الشواطئ والرّغبات ...

وحين تحملك الدروب وأنت على يقظة بينة ووضوح هدف، فأنت الكاسب الوحيد في معترك تعارفك بنفسك في الغربة ...

أصدق الأماكن التي تعرِّفك نفسك دروب السفر ...

بائعة الورد بجوار البيت الأبيض كانت وردة في ذاكرتي لا يضمحل شذاها ...

لم تشأ أن أبتاع منها حين نفذت عيناها إلي وأدركت أنني لست من الجوار ... مدّت لي بباقتها من ثلاث زهرات: الجوري والياسمين والأوركيد ... مددت لها بالنقود فأمسكت بيدي وهي تقول: هذه للذكرى؟

أيّ ذكرى وأنت لا تعرفينني ... لكنها تنهّدت وقالت: في ملامحك شممت رائحة أهلي ...

بائعة الورد من جذور يونانية منحتني صفحات لأقرأها عن تلاقي الإنسان في شتاته الديمومي ... فالأرض متّسع لكلِّ الأقدام لكن ثمة عجينة تجمعه ...

كنت أمضي ومعي زهراتها الثلاث لكن الذي بقى منها هي ملامحها في لقطة لم تطمسها الذاكرة ...

لم يكن المال لها وحده هدف الاقتناء حين يكون التبادل به مع ذاكرة تنبض أو ملمح يحرّك الشجن ...

ما يبقى أبعد مساساً بديمومة الشعور ...

والمال مجرّد رمز وإنْ كان محسوساً حين التقايض به ورقة بشيء ... أو معدناً بآخر ...

لا تزال في جعبتي بقية من (سنتات) وصورة للزهرات ...

لكن ثمة ما هو أبقى تعلّمته في تلك اللحظة لمَّا ينتهي الدرس فيه بعد ...

دروب السفر قوّة جاذبة أدركها العلماء والباحثون والفاتحون والدّعاة ..

والمبدعون والمستكشفون ...

ولمّا يزل الإنسان يطرق مجاهل الكون، لأنّ ثمة ما خُفي عنه مرهونة به طموحات ورغبات حين يكون السفر مطيّة لغايات كبرى لا تتراجع عن مواقع النجوم ...



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5852 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد