Al Jazirah NewsPaper Friday  25/04/2008 G Issue 12993
الجمعة 19 ربيع الثاني 1429   العدد  12993
لما هو آتٍ
لي معها حكايات (5)...
د. خيريّة إبراهيم السّقاف

دروب السفر تأخذنا لاتجاهات الأرض العديدة ...

لطالما مرقت خاطرة تعددية الاتجاهات في ذهني قبل أن أجلس في الصف المدرسي لأسمع معلِّمتي وهي تتبع بطرف قلمها الشمال والجنوب والشرق والغرب ... ولطالما كانت ولا تزال تتمرّد في ذهني فكرة حصر الاتجاهات في هذه العلامات ...

دروب السفر الملتوية بكلِّ حركتها في أيِّ اتجاه تجعل الأرض عجينة لخطوك ...

فالجنوب لك شمالٌ لغيرك، والشرق عندك شمالٌ لسواك ...

وأعصر رأسي ... أي متاهٍ هذا الذي يتقلَّب في دوامته الإنسان ...

هذا الرأس الصغير في جسده تطلُّ منه عينان تحميهما رموش وجفون أربعة كثكنات العسكر في أهبة الحرب ..

تجعل من هذا الإنسان دمية تتلاعب بها حقائق الكون وهو يلهث بغرور ليخضعها لقدراته، فلا يكاد يغمضهما حتى يعود يبحلق بهما في تفاصيل الدروب ...

ثمة قلب شغوف في صدره وثمة روح وثّابة في عروقه وثمة فكر خلاّق فوق هامته يركض يركض ... ربما ينام وربما لا يفعل ....

لكن خزانة أسئلته تنبعج كلّما عبرت به دروب السفر ... تارة تنبعث في مقارنات ...

وتارة تنشق عن مفاجآت ... وتارة تنبت بين كفيه ملموسات ...

فتترى الأسئلة حتى يكاد أن تضيق بها دروبه وأوقاتها ...

والعالم الكبير الذي تلمه أوراق الجغرافيا وتحدّد فيه المعلمة سمات الشعوب وخصائصها بمجرّد أن تأخذك دروب السفر إليهم تجده ورقاً أصفر لا حياة فيه ... والجغرافيا هذا الكون النابض الماثل بين عيني رؤيتك ووعيك ...

تتلاحم الأشكال وتتناغم الطباع، وتجد نفسك أمام نفسك في كثير ...

الفيصل بينك وبين الإنسان هو أنّك إنسان وأنّه هو ذاته وأن لا غير مسوحات المواقع وأنماط التجارب هي التي تمايزك عنه أو تفرقه عنك ... وتعود إلى أنّك وهو في خانة البشرية سواء ...

دروب السفر تلغي من قواميسك عشرات المصطلحات وتبدِّل في أبجدية فكرك مثلها من الأفكار وتقرب اللغات

وتستوي مندهشاً بلسان الإنسان الذي وحده ما يمنحك مزيداً من سعة دروب التفكير في كيف لهذه الحروف أن تتخطّى على ألسنته تراكيب الثمانية أو الستة وعشرين حرفاً لتشكل عشرات التراكيب ...

بينما الأصوات واحدة والمخارج واحدة والأفواه واحدة ...

وحدتها في تشابهه وتطابقها وتماثل بنائها ...

وتعود تتفكّر في قدرة الخالق العظيم ...

درس عظيم تتلقّاه في دروب السفر أول حرف في جُملته هو وحدانية الخالق الرب ... وآخر حرف في جملته هو عظمة خلقه وتفرُّد قدرته ...

والإنسان بل المخلوقات كلها مهما تباعدت مواقع سكناها فإنّها لا تختلف في غرائز معاشها وممارسة حياتها بل في تركيبتها ...

دروب السفر بوْصلة للنفس لتبصرها ... وللكون لتعرفه ... وللقلب لتعلِّمه ...

دروب السفر هي اليقين الوحيد الذي يجعلك لا تشك في أنّها تمنحك حقيقة أنّ القلب لا يشعر أو يحس أو يصدر مشاعره نحو ما تحسُّ فقط ... بل إنّه طفل صغير عليك أن تعلِّمه تماماً أبجديات كون الله العظيم وكيفيّة قراءة دفتر الحياة ...



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5852 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد