Al Jazirah NewsPaper Thursday  01/05/2008 G Issue 12999
الخميس 25 ربيع الثاني 1429   العدد  12999
فيض الضمير
في أغمات مع المعتمد بن عباد (1-3)
د. محمد أبو بكر حميد

لا أتصور للزائر الواعي بتاريخ أمته أن يصل مراكش ولا يفكر في زيارة أغمات التي تبعد 30 كم عن مراكش حيث يرقد المعتمد بن عباد أشهر ملوك الطائف بالأندلس الذي خلد مأساته في شعره. وقبل توجهي إلى أغمات بيوم كنت قد وقفت على ضريح الفاتح المسلم العظيم مؤسسة دولة المرابطين الكبرى يوسف بن تاشفين

ودعوت الله له بالرحمة والمغفرة جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين في عهده، ولكن ظل في ذهني سؤال: لماذا فعل ما فعل بالمعتمد بن عباد حين تعامل معه بقسوة بعد أسره وأذله سجيناً حتى مات؟!

سؤال لا يزال حائراً دون جواب رغم عشرات الدراسات التاريخية التي كُتبت عن هذين البطلين المسلمين في محاولة لتقديم تفسير مقنع لقسوة ابن تاشفين التي لم تكن تتناسب مع شخصيته وعدله وورعه ووفائه وتقواه.

كان ذلك اليوم الأخير لي في مراكش، ولم يكن أمامي إلا أن أترك الجلسة الأخيرة للمؤتمر الذي كنت أحضره، وكان زميل مغربي هو الدكتور خالد بن الحبيب الدادسي أستاذ بجامعته مكناس قد قبل مشكوراً أن يصاحبني، وقال لي إن استئجار سيارة خاصة إلى أغمات سيكلف مبلغاً مبالغاً فيه، والأفضل أن نركب الحافلة التي تذهب إلى أغمات. فما كان منا إلا أن ركبنا سيارة أجرة وقلنا له اذهب بنا إلى باب أغمات ظناً منا أن الحافلات أو سيارات الأجرة تتحرك من هناك ولكننا اكتشفنا أن هذا الباب لا علاقة له بالطريق إلى أغمات وإنما هو موقع إحدى بوابات مراكش القديمة، ويتكون من قوسين عريقين شهدا عدة عصور وتواريخ، ويقع في حي قديم من أحياء مراكش يسمى سيدي يوسف بن علي بالجهة الشرقية. وبعد مشقة وصلنا إلى المكان الذي تنطلق منه الحافلات إلى أغمات، إنه من عجائب الصدف - المؤلمة بالنسبة للمعتمد بن عباد - أن الحافلة التي تذهب إلى أغمات - مكان سجنه ومدفنه - تنطلق من محطة بجوار ضريح عدوه اللدود يوسف بن تاشفين على شارع سيدي ميمون!!

فوجئت بالزحام الشديد على الحافلة واكتظاظ الناس الذي ذكرني بالمشاهد التي نراها في الأفلام المصرية، وفكرت في التراجع عن الركوب فقد خُيِّلَ إليَّ أنني لن أستطيع صعود الحافلة، لكن صاحبي ذكرني بأنها آخر فرصة لي لزيارة المعتمد في أغمات، وبعد مشقة ركبنا، وأتاح الركاب لنا فرصة الجلوس على مقعدين ربما تقديراً لمظهرنا الذي كان يختلف عن كل الركاب، إذ كان معظم مَنْ بالحافلة من الفلاحين الذين قدموا لمراكش لشراء احتياجاتهم من أبناء أغمات والقرى المتناثرة قبلها.

استغرقت الحافلة حوالي خمس وأربعين دقيقة وتوقفت في عدة محطات كانت عبارة عن مزارع للفلاحين وتجمعات لبيوت قليلة لا تشكل قرية. وأخذت فكرة مبدئية من نوع الركاب والطريق أن أغمات لم تعد تلك المدينة العريقة التي عرفها التاريخ. وبالفعل فقد رأيت أقل مما تصورت، إذ وقفت بنا الحافلة على قرية صغيرة تشبه قرى الأرياف تعيش على هامش الحياة الحديثة، مجموعة بيوت قديمة للفلاحين، وقهاوٍ شعبية، ولا يوجد أثر لأي اهتمام بهذه المدينة ذات التاريخ العريق. ووقفت حائراً في عجب: أهذه أغمات أهم حواضر المغرب الإسلامي في العصر الوسيط وعاصمة الأدارسة الزاهرة، والمدينة التي استقر بها المرابطون أثناء زحفهم نحو المغرب الشمالي ولم يبرحوها إلا بعد قرار تشييد مدينة مراكش سنة 454هـ - 1062م لتكون عاصمة لهم؟!

لعبت أغمات دوراً هاماً في التاريخ المغربي سياسياً واقتصادياً وثقافياً لم يتراجع إلا بعد ظهور مراكش فقد كانت مدينة محصنة كان عقبة بن نافع أول من اقتحم أسوارها واستولى عليها لأهميتها الإستراتيجية، فهي نقطة اتصال رئيسية بين الشمال والجنوب المغربي عبر الأطلسي الكبير، ومنها كانت تنطلق الرحلات إلى الأراضي المقدسة بالحجاز، ولهذا اشتهر أهلها بالتجارة وملكوا ناصيتها في عصرهم، وقد أشار إلى ذلك الجغرافي الشهير الشريف الإدريسي قبل القرن الخامس الهجري حين قال: (ومدينة أغمات أهلها هوارة من قبائل البربر، وهم أملياء تجار مياسير يدخلون إلى بلاد السودان بأعداد الجمال الحاملة لقناطر الأموال من النحاس الأحمر والملون والأكسية وثياب الصوف والعمائم، والمآزر وصنوف النظم من الزجاج والأهداف والأحجار وضروب من الأفوية والعطر وآلات الحديد المصنوع، وما منهم رجل يسفر عبيده ورجاله إلا وله في قوافلهم المئة جمل والسبعون والثمانون جملاً كلها موقورة، ولم يكن في دولة الملثمين (المرابطين) أحد أكثر منهم أموالاً ولا أوسع أموالاً وأبواب منازلهم علامات تدل على مقادير أموالهم).

وقد جعلها يوسف بن تاشفين مقراً لإقامة ملوك الطوائف الذين سجنهم بعد توحيده بلاد الأندلس. وفي عهد ابنه علي بن يوسف بن تاشفين أصبحت أغمات مركزاً للمعارضة السياسية والفكرية، ودفن بها عدد من علماء المغرب والعالم العربي إذ يوجد بها قبر القاضي المرادي الذي ألَّف عدة كتب في التدبير السياسي في الدولة الإسلامية، وبها قبر الفقيه وحلان سعدون وعبدالعزيز التونسي وغيرهما.

استعرضت هذا التاريخ كله ونحن نسير على طريق ترابي اصطفت على يساره عدة قهاوٍ شعبية متهالكة بحثاً عمن يدلنا على موقع ضريح المعتمد بن عباد، وكنت كلي ثقة أن كل من رأيناه لا يعلم شيئاً عن المعتمد بن عباد ولا عن تاريخ هذه المدينة، ثم وجدنا أخيراً صبيةً من تلاميذ المدارس فسألناهم فقالوا تعالوا ندلكم عليه، فعرجوا بنا إلى طريق زراعي اصطفت عن يمينه سلسلة من أشجار الزيتون التي لاحظت كثرتها في أغمات. وتلفت عن يمين وشمال أبحث عن أثر لأغمات التاريخية فلم أجد، فواصلنا السير حتى أشار الصبية إلى فيلا حديثة الطراز محاطة بأشجار الزيتون وقالوا لنا هناك يرقد المعتمد بن عباد، فعجبت وحثثنا الخطى لنرى ماذا هناك من عجب جديد ينتظرنا، وهو ما سنتحدث عنه الأسبوع القادم إن شاء الله.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 777 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد