Al Jazirah NewsPaper Thursday  01/05/2008 G Issue 12999
الخميس 25 ربيع الثاني 1429   العدد  12999

عبقرية اللغة العربية (1-3)

 

الاشتقاق (الواسع) مظهر رئيس من مظاهر عبقرية لغة العرب تنفرد وتمتاز به عن سائر اللغات، وهو لغةً أخْذ شِقّ الشيء، وشِقُّ الشيء يعني نصفَه أو جانباً منه، واصطلاحاً هو أخْذ كلمة من أخرى لمناسبة بينهما في المعنى ولو مجازاً مع تغيير في اللفظ، فأنت حين تقول (نطقَتِ الحالُ بكذا) تريد دلَّتْ دلالة واضحة، ولفظ (نَطَقَتْ) مشتق من النّطق بمعنى الدلالة الواضحة، وهذا المعنى مجازيّ لا حقيقيّ، وفيه استعارة تبعيّة لأنّهم يشبّهون الدلالة الواضحة بالنطق ثم يستعيدون (النطق) المشبَّه به (للدلالة الواضحة) المشبَّهَة ثم يشتقون من النطق بالمعنى المجازي وهو الدلالة (نَطَقَ وينطق وآنْطِق وناطقاً) بمعنى (دلّ ويدلّ ودالّ) ومن ذلك قول الشاعر:

ولئن نطقت بشكْرِ ربِّك مفصحاً

فلسان حالي بالشكاية أَنْطَقُ

فالاشتقاق إذن ليس مقصوراً على المعاني الحقيقية.

والاشتقاق على ثلاثة أقسام، صغير وكبير وأكبر، فالصغير هو تحويل الأصل الواحد إلى صيغ مختلفة لإفادة معنى الأصل وزيادة، كتحويل (الأَكْل) إلى أَكَلَ ويأكل وكُلْ وآكِل وأكول ومأكول، ثم تحويل آكِلٍ إلى آكلَيْن وآكِلِينَ وأَكَلَهْ، وهذا المثال يدلّ على أنّ التناسب بين المأخوذ والمأخوذ منه قد وقَعَ في المعنى وفي اللفظ معاً، فقد وافق المشتقّ المشتَقَّ منه في أصل المعنى وفي عدد الحروف الأصلية وفي ترتيبها، وهذا الاشتقاق الصغير هو الذي يعنيه علماء التصريف بكلمة الاشتقاق عند الإطلاق لأنه أوسع دائرة وأكثر فائدة.

والاشتقاق الكبير هو أخْذ كلمة من أخرى مع التناسب في المعنى وفي اللفظ جميعاً ولكن مع عدم الترتيب في الحروف الأصول نحو حَمَدَ ومَدَحَ وصاعقة وصاقعة، ويُسمَّى ما حدث في هذين المثالين ونحوهما قلباً مكانياًّ أيضاً.

والاشتقاق الأكبر (ويسمَّى أيضاً الإبدال) يكون التناسب فيه بين الكلمتين في المعنى وحده مع كون أكثر حروفهما على الغالب من نوع واحد نحو نَعَقَ ونَهَقَ، ودنْدَنَ وطنّطَنَ، وهَتَنَ وهَتَلَ وهَطَلَ المطر.

وسُمِّيَ الاشتقاق الصغير متغيراً لأنه يكفي في معرفته التأمّل القليل، وسمّي الكبير كبيراً لاحتياجه إلى تأمّل كثير، وسمّي الأكبر أكبر لاحتياجه إلى تأمّل أكثر بسبب إبدال بعض الحروف فيه.

وقد أفاد الاشتقاق بأقسامه الثلاثة اللغة العربية وكَثَّرَ موادّها ووَلَّدَ الفروع من أصولها. بشكل كبير.

ومن مظاهر عبقرية العربية -عندي- ما سماه الصّرفيون (القلب المكاني)، وقد لا يعدّه بعض الباحثين المعاصرين كذلك، بل ربّما رأَوْه مثلباً خطيراً ومظهراً للتخلّف والتعقيد وصورة من صور العجرفة اللغوية.

ومهما يكن من أمر فإنّ مبحث (القلب المكاني) دقيق وعسير يضيق به الدارسون ويتهرّب من الخوض في غماره مَنْ لم يؤتَ صبراً عظيماً ويرهب منه من يؤثر العافية ويبغض العناء ويجنح إلى السهولة، لأنه لون من ألوان التفكير العقلي والعمل الذهني الخاضعين بمقدار كبير إلى مقتضيات المنطق ودواعي الفلسفة أكثر من خضوعهما إلى الفطرة اللغوية البدائية.

وقد وقع القلب المكاني في الجملة وفي الإعراب وفي الكلمة المفدرة، فالأوّل نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} وقوله تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وقولك: (أدخلتُ الخاتم في إصبَعِي) و(عرضْتُ الناقة على الحوض).

أما القلب في الإعراب فكقولهم (خَرَقَ الثوبُ المسمارَ) و(كسَرَ الزّجاجُ الحَجَرَ) وقوله تعالى:

{فَتَلَقَّى آدَمَ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٌ} بنصب آدمَ ورفع كلماتٌ على قراءة ابن كثير السبعيّة خلافاً لقراءة باقي السبعة المشهورة برفع آدم ونصب كلمات بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم. والقلب المكاني في الجملة مجاله (علم البلاغة) وفي الإعراب مجاله (علم النحو) وفي الكلمة المفردة مجاله (علم الصّرف).

ولم يحفل جمهور القدامى من علماء العربية كثيراً بالقلب المكاني بصورة عامة، نرى هذا واضحاً فيما تفرّق من الحديث عنه في كتاب سيبويه المتوفى 188هـ وفي مقتضب المبرّد المتوفى 285هـ، وكان أبو عليّ الفارسي المتوفى 377هـ أكثر العلماء القدامى لزوماً للقلب المكاني وحدباً عليه واسترواحاً إليه واستبصاراً به، ثم جاء من بعده تلميذه ابن جنّي المتوفى 392هـ فاستكثر من الكلام فيه والرجوع له وأولعَ به حتى جاء منه ولا سيّما في كتابه (الخصائص) بالعجب العجاب، واقتفى آثارهما الزمخشري المتوفى 538هـ في تفسيره (الكشاف) وفي سائر كتبه.

وقد دأب المشتغلون بالصرف من المتأخرين ومَنْ بعدهم من المعاصرين على التعرض في تواليفهم بكثرة للقلب المكاني في الكلمة المفردة خاصة، ومن كتب المحدثين التي تضمنت بحثاً واسعاً في القلب المكاني كتاب (سِرُّ -اللّيَالْ- في القلب والإبدالْ) لأحمد فارس الشدياق، وقد عَدَّ هؤلاء القلب المكاني ظاهرة لغوية لا يصحّ إنكارها، ولاحظوا وجودها دائماً في لغة الأطفال الذين لا يستطيعون نطْق الألفاظ الكثيرة التي يسمعونها كلّ يوم فيقلبون بعض حروفها مكان بعضها الآخر، ولاحظوا وجودها أيضاً في لغة العامّة مثل كلمة (مَسْرَح) التي وزنها (مَفْعَل) والتي ينطقها هؤلاء كثيراً (مَرْسَح) فتصبح بهذا القلب على وزن (مَعْفَل).

أ.د. عبدالكريم محمد الأسعد

أستاذ سابق في الجامعة


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد