Al Jazirah NewsPaper Monday  12/05/2008 G Issue 13010
الأثنين 07 جمادى الأول 1429   العدد  13010

في رحاب المغرب الجميلة «4»
د. عبدالله الصالح العثيمين

 

أشير في حلقة سابقة إلى قيام كاتب هذه السطور بزيارات عديدة إلى بلاد المغرب الجميلة. وكان من تلك الزيارات زيارة مع أساتذة كرام من جامعات وطننا العزيز ذوي تخصصات متنوّعة تحت عنوان .....

.....(الجامعات السعودية في رحاب الجامعات المغربية).

وقد ألقى الإخوة الزملاء المتخصصون محاضرات في جامعات مغربية في الرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش، أمّا أنا فكان دوري محدوداً في إلقاء ما أمكن من قصائد. وكان الإقبال العظيم من أساتذة الجامعات المغربية وطلاّبها على حضور تلك المحاضرات والقراءات الشعرية دليلاً من أدلّة نجاح الزيارة التي تمَّت عن طريق وزارة التعليم العالي.

ومما لا زلت أذكره من لطائف تلك الزيارة أننا كنا في كلية الطب بجامعة محمد الخامس في الرباط، حيث ألقى عدد من الأطباء السعوديين محاضرات قيِّمة، وإذا بي أفاجأ بالتفاف أعداد من طلبة تلك الكلية وطالباتها من حولي، وإلقاء السلام عليّ. ومن الواضح أنّ سماع الجميع باسمي المنتمي إلى أسرة أخي الشيخ محمد، رحمه الله ، كان السبب في ذلك الالتفاف. وكان السؤال المتكرر من أكثرهم: كيف حال شيخنا عبد العزيز بن باز؟ وكيف حال الشيخ العثيمين؟ وحمدت الله وشكرته على أن وجدت أولئك الفتيان وتلك الفتيات في بلاد نائية جغرافياً عن وطننا العزيز؛ بل وفي كلية طب، لا في كلية شريعة أو أصول دين، قد وصلت مكانة أفذاذ من علمائه إلى ما وصلت إليه هناك، فامتلأت القلوب بمودَّتهم وحبهم. وقلت في نفسي: يا ليت من يهمُّهم الأمر في وطننا أفادوا من ذلك الوضع الإفادة المرجوَّة بوسائل فعَّالة.

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فإني ما زلت أذكر أني عندما كنت مع أخي الشيخ محمد، رحمه الله، والذين رافقوه من الأسرة والأقارب، وهو حينذاك يتلقّى العلاج في أمريكا، كانت أكثر المكالمات التي تصل إليه، مستفتية أو سائلة عن صحته، من الجزائريين في وطنهم أو خارجه في أوروبا وغيرها. وكان للكلمة التي وجَّهها إلى من كانوا في خلاف مع الحكومة الجزائرية - أيام اشتداد الفتنة بين الطرفين - صدى طيِّب وأثر ملموس بحيث جنح آلاف منهم إلى السِّلم ونبذ المواجهة. كفى الله أُمتنا شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن.

ومن الزيارات التي قمت بها إلى رحاب المغرب الجميلة زيارة إلى مدينة فاس ذات العبق التاريخي العلمي المتجذِّر أصالة الممتد عطاء؛ وذلك بدعوة من كلية الآداب بجامعتها كان للشاعرة الدكتورة، لويزا بولبراس، أستاذة النقد هناك، دور كبير في تمهيد الطريق أمامها. وفي تلك الزيارة ألقيت محاضرة على طلاب كلية الآداب بحضور كثير من أساتذتها عن قيام الدولة السعودية وتدرُّج تاريخها حتى اكتمال وحدتها على يد الملك عبد العزيز، رحمه الله . وكان عدد الحضور لا يقلُّ عن تسع مئة طالب وطالبة. وفي اليوم التالي ألقيت قصائد متنوّعة الموضوع مختلفة السَّبك. ولا تسل عن شعور الملقي وهو يجد تجاوباً رائعاً ممن كانوا وكنّ أمامه.

على أنّ أهم شيء قمت به في تلك الزيارة هو إلقاء محاضرة على طلبة الدراسات العليا وطالباتها؛ وعدد الجميع لا يقلُّ عن مئة وعشرين، عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، مشيراً إلى أسسها وإلى آرائه هو وأنصاره وآراء خصومهم في مسائل معيَّنة كمفهوم العبادة، والتوسُّل بالأموات، وبناء الأضرحة، والصوفية والتكفير والقتال. ولقد بدا على وجوه بعضهم نوع من الدهشة المشوبة بشيء من الارتياح عندما قلت: إنّ الشيخ محمداً وأنصاره لا ينكرون الصوفية التي هي تنزيه الباطن من رذائل المعاصي المتعلِّقة بالقلب والجوارح مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي والمنهج القويم المرعي، إلاّ أنّهم لا يتكلَّفون له تأويلاً في كلامه ولا أفعاله. ومما هو جدير بالذِّكر أنّ المناقشات التي تلت المحاضرة استمرت ساعة ونصف الساعة. ولم أشعر بغبطة وسرور كشعوري حينذاك. وأحسست - من خلال إلحاحهم على دعوتي إلى مقر اتحادهم - أنّهم مستعدون؛ بل ومتحمِّسون، للاستماع إلى من لديه استعداد للتحاور معهم حول دعوة الشيخ محمد ومواطن اختلاف أنصارها مع خصومها.

ومن الزيارات التي قمت بها إلى رحاب المغرب الجميلة زيارة بدعوة كريمة من منظِّمي خيمة الفكر والإبداع في جامعة فاس. والدكتورة لويزا بولبراس جندية مقدامة في الإعداد لتلك الخيمة. وكانت الدعوة لحضور ندوة عن الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ إضافة إلى قراءات شعرية لشعراء وشاعرات من أقطار مختلفة. وكان من الباحثين العمانيين من قالوا: إنّ الخليل من عمان، ومن الباحثين الإيرانيين من قالوا: إنه من بلادهم. ولكل من الفريقين نظرته الخاصة؛ انتماءً واصلاً أو حياةً ومعيشة. على أنّ الجميع متفقون على عظمة عبقريته؛ مفكراً مسلماً ولغوياً رائداً. أمّا القراءات الشعرية فكان في طليعة من قام بها الشاعر عبد السلام بوحجر من سكان وجدة المغربية. وكان ذلك الشاعر رائعاً؛ شاعرية متدفِّقة وأسلوباً جميلاً، وأداءً متميزاً.

ومن تلك الزيارات لرحاب المغرب الجميلة زيارة ذات معنى خاص قمت بها في السنة الماضية للمشاركة في لقاء علمي شعري عن الأدب والشعر بالفصحى وبغيرها؛ وذلك في مدينة العيون. وقد رتَّب ذلك اللقاء منظِّمو خيمة الفكر والإبداع بفاس بالتنسيق والتعاون مع المسؤولين المعنيين في العيون.

وحضر اللقاء وشارك في فعالياته أعداد لا بأس بهم من بلادنا العزيزة؛ مسؤولين ثقافيين وأكاديميين وشعراء. وقد تحدَّثت هناك عن (الشعر النبطي ودلالاته الاجتماعية)، كما ألقيت عدداً من القصائد بالفصحى. وكان في طليعة الشعراء الذين شاركوا في اللقاء الشاعر السوري عمر الفراء، الذي يمتاز بإلقاء يشدّ المتلقِّين إليه شدّاً. ومن أطرف ما حدث إلقاء أحد رجالات القبائل الأردنية قصيدة بالعامية بدأها بالتغزُّل بوزيرة خارجية أمريكا حتى كاد الجميع يظنُّون أنّه شغف بها حباً وهياما، وإذا به في نهاية المطاف يتحوَّل إلى هدفه الحقيقي؛ وهو تبيان جرائم الإدارة الأمريكية، التي هي ركن من أركانها، بحق أُمّتنا العربية بخاصة وأُمّتنا المسلمة بعامة. وكان الفندق الذي نزل فيه المدعوون - وهو على ساحل المحيط الأطلسي -، روعة من حيث الموقع وبُعده عن الضوضاء. وكم كان المشي رياضة حوله في الصباح ممتعاً ومريحاً للنفس والبدن. وكم كانت دعوات أهل تلك المنطقة الكرام؛ رجالاً ونساء، لتناول حليب النوق في الصحراء مغرية حقاً! ذلك أنّ في تلبيتها سبيلاً إلى معرفة شيء من عادات أولئك الأهل وسجاياهم الفاضلة. لكن الوقت - كما هي عادته في كثير من الأحيان - كان الحاكم بأمره. لذلك حرمنا من ذلك الحليب، الذي وصف ابن حصيص ريق تلك الغادة التي عشقها بقوله:

ريق ساره سكّر له في غضاره

أو حليب بكارْ عِرْبٍ مسمنات

ولو لم نحرم من ذلك لكان من الممكن أن نرى أقحواناً كالأقحوان الذي وصف ذلك الشاعر ثنايا تلك المعشوقة به قائلاً:

والثنايا قحويانٍ في زباره

زاهيٍ نبته على كلّ النبات

على أنه لم يكن معنا مطوَّع مثل ذلك الذي قال عنه:

والمطوّع لو يشوف خديد ساره

طبّق المصحف وعجَّل بالصلاة

وإلى اللقاء في حلقة قادمة إن شاء الله.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد