Al Jazirah NewsPaper Thursday  15/05/2008 G Issue 13013
الخميس 10 جمادى الأول 1429   العدد  13013

فيض الضمير
في أغمات مع المعتمد بن عباد (3-4)
د. محمد أبو بكر حميد

 

لم يُقدم يوسف بن تاشفين على قرار القضاء على عروش ملوك الطوائف إلا بعد أن ضج العالم الإسلامي من ترفهم وتماديهم في غيهم وتقاعسهم في الدفاع عن الدين والوطن، وتعزز هذا الرأي العام فيهم بفتاوى كبار الفقهاء في المشرق والمغرب التي أجازت خلعهم، وكان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي وأبوبكر الطرطوشي في مقدمة من أفتى بذلك.

وبهذا وجد يوسف بن تاشفين نفسه ملزماً أن يستجيب لنداء الأمة وعلمائها، خاصة وهو في موقع أكبر قائد إسلامي أجمعت الأمة على إخلاصه ونزاهته وشجاعته في زمنه. بدأ يوسف بن تاشفين حملة تطهير الأندلس بالاستيلاء على (غرناطة) العظيمة التي دخلها في 10 رجب 1483هـ الموافق سبتمبر 1090م، وقبض على أميرها عبدالملك بن ملكين وبعث به أسيراً ليسجن في أغمات ثم اتجه إلى مملكة ابن عباد ليخوض معركته الحاسمة مع أقوى ملوك الطوائف بالأندلس حليف الأمس عدو اليوم المعتمد بن عباد، ولكن عاصمته (أشبيليا) سقطت في يد بن تاشفين في رجب 1484هـ الموافق سبتمبر 1091م بعد معركة حامية دافع فيها المعتمد بن عباد بنفسه عن عاصمة ملكه دفاعاً مستميتاً وقاتل قتال الشجعان الصناديد، وتم أسر المعتمد وأهله ثم استولى ابن تاشفين على (قرطبة) حيث قتل المأمون بن المعتمد، وفي معركة الاستيلاء على (رندة) قتل الراضي بالله بن المعتمد. وواصل ابن تاشفين حملة تطهير وتوحيد الأندلس فاستولى على (ألمرية) و(بلنسية) ثم (مرسية) ثم وصل إلى (بطليوس) واستولى عليها بعد معركة حامية قتل فيها أميرها المتوكل بن الأفطس وولديه في مناظرة مؤسية أثارتها القصيدة الشهيرة المؤثرة التي نظمها الوزير ابن عبدون في نعي دولة بني الأفطس ومطلعها:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

من البكاء على الأشباح والصور

ولم تمض أعوام ثلاثة حتى استولى المرابطون على الأندلس كلها وضمها إلى دولة الإسلام الكبرى في المغرب وذلك سنة 487هـ الموافق 1094م. لكن التاريخ لم يُخلِّد مأساة لملك من ملوك الطوائف كما خلَّد مأساة المعتمد بن عباد، ولم تهتز دولة الشعر وتثير في النفوس الأسى والشجن كما اهتزت لما حدث له، وذلك ليس لأن المعتمد كان شاعراً عظيماً فحسب بل لأن قصته جمعت كل عناصر المأساة ودروس العبرة والاعتبار لما جمعته من متناقضات الحب والكراهية والإخلاص والخيانة، والقوة والضعف والعدل والظلم والغنى والفقر، فقد اجتمعت في شخص المعتمد صفات الملوك العظام النبلاء، كان جوادا كريما، وفارسا شجاعا، وشاعرا حكيما، جمع في بلاطه نجوم الأندلس الزاهرة من علماء وأدباء وشعراء كبار أمثال أبي بكر بن عمار، وابن زيدون وابن اللبانة وابن حميدس الصقلي، وكانت زوجته الشهيرة اعتماد البرمكية أديبة عالية الثقافة جمعت إلى جانب جمالها الفاتن براعة في نظم الشعر. وقد أعانت هذه الصفات على محبة شعبه له الذي كان أقل تضرراً منه قياساً بشعوب ملوك الطوائف الأخرى. فإذا أضفنا إلى ذلك المشهد البطولي الأخير الذي وقفه في الدفاع عن مُلكه، وهو مشهد خلَّده التاريخ وخلَّده الشعر حين خرج المعتمد في يوم الأحد 21 رجب 484هـ من قصره متقلداً سيفه يقاتل أعداءه وحيداً بعد أن سقطت حصونه وتفرق جيشه رافضاً الاستسلام والخضوع الذي نصحه به أعوانه قائلاً:

لما تماسكت الدموع

وتنهنه القلب الصريع

قالوا الخضوع سياسة

فليبد منك لهم خضوع

وألذ من طعم الخضو

ع على فمي السم النقيع

واستمر يقاتل وكأنه جيش وحده لا يقيه درع ولا ترس وليس عليه من ثياب سوى غلاتة رقيقة وهو ينشد:

لم أستلب شرف الطبا

ع، أيُسلب الشريف الرفيع؟!

قد رمت يوم نزالهم

ألا تحصنني الدروع

وبرزت ليس سوى القم

يص عن الحشاشي دفوع

وكان حال الناس إذ ذاك في أشبيليا كما جاء في وصف المراكشي في كتابه (المعجب): (.. والناس خامرهم الجذع، وخالط قلوبهم الهلع، يقطعون السبل سياحة، ويعبرون النهر سباحة، ويترامون من شرفات الأسوار حرصاً على الحياة) أما المعتمد فقد ظل صامداً لا يخاف الموت يعلن موقفه بقوله:

أجلي تأخر لم يكن

بهواي دلِّي والخشوع

ما سرت قط إلى القتا

ل وكان من أملي الرجوع

شيم الأُلى أنا منهم

والأصل تتبعه الفروع

وظل المعتمد يقاتل قتال المؤمن بقضاء الله وقدره حتى رأى بعينيه أنه واقع فيما ليس منه بد، فلم يفكر في الانتحار الذي يفكر فيه الأبطال في لحظة الهزيمة، فآثر أن يقع أسيراً في يد يوسف بن تاشفين صديق الأمس الحميم وعدو اليوم اللدود، وهي نهاية لا أظنه يندم عليها، لأنه عندما حذره جيرانه ملوك الطوائف من إدخال ابن تاشفين إلى الأندلس، آثر أن يقع أسيراً في يد قائد مسلم على أن يقع أسيراً في يد قائد كافر، وقال لهم كلمته الشهيرة التي حفظها له التاريخ: (رعي الغنم في مراكش خير لنا من رعي الخنازين في قشتالة)!!

ولقد بكت دولة الشعر دولة ابن عباد طويلاً وعبرت عن حزنها لما حدث له، تصدر ذلك شاعره الوفي أبوبكر بن اللبانة بقصيدته الشهيرة:

تبكي السماء بمزنٍ رائعٍ غاد

على البهاليل من أبناء عباد

على الجبال التي هُدت قواعدها

وكانت الأرض منها ذات أوتاد

يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ

في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد

ويا مؤمل واديهم ليسكنه

خف القطين وجف الزرع بالوادي!

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 777 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد