Al Jazirah NewsPaper Monday  26/05/2008 G Issue 13024
الأثنين 21 جمادى الأول 1429   العدد  13024
(الإسلام السياسي) المصطلح والتطبيق
د. عبد الرحمن الحبيب

يعترض بعض الكتَّاب والدعاة وقادة الحركات السياسية الإسلامية على مصطلح (الإسلام السياسي)، بحجة أنه مصطلح مستورد من الغرب، وذو مفهوم أوروبي له سياقه العلماني، ولا ينطبق على فلسفتنا أو ثقافتنا الإسلامية التي لا تفصل بين الدين والسياسة.

والاعتراض هذا - من وجهة نظري - منطقي شكلاً وغير واقعي من ناحية المضمون، لأنه غالباً لا يفرق بين الفصل بين التخصصات والمهام من جهة، والفصل بين الدين والدولة من جهة أخرى. فإذا كانت هناك تخصصات في علوم الدين والاجتماع والسياسة والاقتصاد.. إلخ، وما يتبعها من تخصصات في المهام بشؤون الدين والاجتماع والسياسة والاقتصاد، فإن ذلك يستوجب عدم الخلط بين هذه المهام رغم أنها قد تتقاطع مع بعضها وتتكامل.. هذا يستوجب أيضاً عدم خلط مهمة القضاة والمشايخ والفقهاء الشرعيين أو المفتين أو الدعاة الدينيين مع مهمة قيادة حركات سياسية، ناهيك عن قيادة الدولة المنوطة بالسياسيين..

وإذا حاكمنا مصطلح (الإسلام السياسي) بأنه جديد وغربي فهذا صحيح، ولكنه كمفهوم لا يتعارض مع تاريخ الحضارة الإسلامية، بل على العكس يتفق معه، شأنه بذلك شأن كثير من مفاهيم المصطلحات الجديدة. في تاريخنا الإسلامي، إذا استثنينا الخلافة الراشدة، فقد كان هناك فصل بين مهام رجل الدولة والسياسة ومهام رجل الفقه الديني في الدولتين الأموية والعباسية وما تلاهما من دول إسلامية، ولم نعرف في تاريخنا تجربة يعتد بها لولاية الفقيه مثلاً أو لدولة يقودها رجال دين. ورغم أن هذه الدول كانت تحكم وفقاً للشريعة الإسلامية - بصورة عامة - فإنها في التفصيل السياسي كانت وفق اجتهادات سياسية ومصالح أرضية دنيوية على أساس القاعدة الفقهية أن (الأصل في المعاملات الإباحة)، شريطة أن لا يتعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية.

أما في الخلافة الراشدة فإن الأمر مختلف قياسه، حيث كانت الدولة في بداية نشأتها، ولم تتضح معالمها الأساسية في فلسفة سياسة الحكم وتطبيقاتها، ولم يتعقد بها الوضع السياسي الاجتماعي من دواوين حكم وشرطة وجيوش ونظم اقتصادية وقضائية وثقافية، ولم يتم الفرز بين تخصص الديني وتخصص السياسي، خاصة في مسألة الفرز بين العلوم الدينية والعلوم السياسية.. والقياس عليها فيه خلل في التفصيل السياسي، وفي مثل هذا القياس يقول ابن خلدون في مقدمته في معرض كلامه عن تعليم الحجاج بن يوسف:

(.. ولا يعلمون.. أن التعليم (يقصد التعليم الديني) صدر الإسلام والدولتين لم يكن كذلك، ولم يكن بالجملة صناعة، وإنما كان نقلا لما سمع من الشارع وتعليما لما جهل من الدين على جهة البلاغ.. على معنى التبليغ الجبري لا على معنى التعليم الصناعي... فلما استقر الإسلام ووشجت عروق الملة، تناولتها الأمم البعيدة من أيدي أهلها.. وكثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع وتلاقحها، فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطأ، وصار العلم (يقصد علوم الدين) ملكة يحتاج إلى التعلم، فأصبح من جملة الصنائع والحرف. واشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك والسلطان، فدفع للعلم من قام به سواهم..).

لقد فطن مؤسس علم الاجتماع الإنساني والعمران البشري للفرق بين التخصصات والمهام وذكرها في عدة مواضع، معتبرا أن التعليم الديني تخصص في ذاته من جملة الصنائع والحرف، ففصل بين أهل علم الدين وأهل الملك والسلطان، وهكذا جرت العادة في التاريخ الإسلامي. ولكن في زمننا الحديث، عندما لا يتم هذا الفصل يقوم فقيه أو داعية أو شيخ دين بقيادة حركة سياسية، ويكون برنامج الحركة برنامجاً دينيا سياسياً أو سياسياً دينياً، فإننا لا نجد مفرَّاً من استخدام مصطلح ( الإسلام السياسي) أو الحركات الإسلامية المسيَّسة، أو ما شابههما من مصطلحات تمييزا لها عن الحركات السياسية المعتادة من جهة وعن الحركات الإسلامية الدعوية غير السياسية من جهة أخرى..

ثمة مشايخ وملالي وقيادات دينية لها مكانتها الروحية المعتبرة في مواقعها، وهذه المكانة مقدرة من قبل الجميع، ولكننا نرى أن بعض الأحزاب والحركات السياسية في العالم العربي وما حوله أصبحت تُقاد من هؤلاء وكأن التنظيم السياسي حوزة علمية أو مجمع ديني، وأصبحت تلك القيادات تُفتي محللة ومحرمة في شؤون السياسة كالاستراتيجيا والتكتيك وبرامج العمل السياسي وأساليب التنفيذ والمناورات والتنظيم الحزبي والمعارضة والمقاومة..إلخ، وتصبغ على موقفها السياسي سمة القداسة، بينما تفاصيل الموقف السياسي هي متغيرة ونسبية ومنفصلة عن مسألة الحلال والحرام بالمفهوم الديني لأنها مسائل دنيوية محايدة تعتمد على المصالح المتغيرة، وتدخل في ما يشتمل عليه الحديث الشريف :(أنتم أعلم بأمور دنياكم)..

إن الزج بالثوابت الدينية في المسائل المتحولة يخدم مرحلياً أصحاب الإيديولوجيات المتشددة، ولكنه مع التغير الحتمي للوقائع السياسية يوقع أصحاب هذه الإيديولوجيات في أزمة مواجهة الواقع المتحول، فتتم هذه المواجهة عبر تكتيكات مرحلية تطيل أمد الأزمة.. ناهيك عن إضراره البالغ بإيكال الأمر إلى غير أهله ومختصيه ممن تنقصهم الكفاءة السياسية من الناحية العلمية الفلسفية ومن ناحية رسم السياسات والاستراتيجيات..

وتظهر خطورة أخرى في إسباغ صفة القداسة المطلقة للموقف السياسي النسبي متمثلة في كثرة هذه الحركات والأحزاب التي تدعي كل واحدة منها امتلاكها الحقيقة الوحيدة، في أنها تساعد في تأجيج حمى التناحرات السياسية والاستقطابات الطائفية التي تعج بها المنطقة، مما يؤدي حالياً إلى نتائج تدميرية.. هذه النتائج التدميرية نشأت في أساسها من مرجعية فكرية ترى وجوب الدمج بين مهمة الديني مع السياسي، بل وترى بعضها تبعية السياسي للفقيه..

إذن الإشكالية هنا هي فكرية بالأساس، بين فلسفة فكرية ترى وجوب الفصل بين مهام أصحاب التخصص بما في ذلك التخصص الديني والتخصص السياسي وبين أخرى ذات مرجعية فقهية ترى وجوب الدمج بينهما، أو تبعية الثاني للأول. وبناء على هذا الفرق بين الفكرتين فإن أصحاب الفصل في المهام لن يجدوا وصفاً مناسباً في معرض طرح أفكارهم سوى استخدام المصطلحات التي تناسب طرحهم الفكري.. ومن حق كل طرف أن يتحفظ على المصطلحات التي يستخدمها الآخر، لكن من المهم ألا يتهم الطرفُ المتحفظُ الآخرَ بالجهل في أصول المصطلحات التي يستخدمها، دون مسوغ يتم استنتاجه من سياق خطاب الآخر وليس من سياق أفكار الطرف المتحفظ..

إن المصطلح في نهاية المطاف يكتسب شرعيته اللغوية بما يتواضع عليه الناس (خاصة المختصين) في واقعهم اللغوي والتطبيقي.. وإلى حين أن يرجح التنفيذ الواقعي هذا المصطلح أو ذاك، سيبقى كل مصطلح جديد عرضة للتساؤل والنقد اعتراضاً أو قبولا.. ورغم أن كل مصطلح ليس بريئاً ويحمل مضامين فكرية، فإننا في النهاية نُغلِّب مقولة اللغويين (لا مشاحة في المصطلح)..



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد