Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/05/2008 G Issue 13027
الخميس 24 جمادى الأول 1429   العدد  13027

صالح يامالك القلب
سليمان الجاسر الحربش

 

غيّب هادم اللذات صديق النفس ورصيف الدرس الدكتور صالح العبدالله المالك، بعد أن ظل في جفن الردى قرابة عام ممسكاً بأهداب الأمل واحداً بعد الآخر، من الرياض إلى مايو كلينيك إلى هيوستن ثم الرياض مروراً بكل ما تفتقت عنه عبقرية الطب الحديث والقديم ولم يبق إلا الحقيقة الأزلية التي تلخصها الآية الكريمة في سورة الأعراف{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.

الفقيد صالح المالك زميلي في مدرسة الرس السعودية وصديق العمر والفكر هو أحد أغصان الدوحة الفينانة: أسرة المالك المعروفة في مدينة الرس وعلى رأسها عمدة المدينة الحقيقي المرحوم الشيخ حمد المالك، هذا الرجل أسدى لمدينته معروفاً لا ينسى، بل أضاء شمعة بدد نورها ظلام السنين وظلمها، فقد ذهب إلى مكة في أوائل الستينيات الهجرية، والتقى بالشيخ محمد بن مانع مدير المعارف آنذاك مطالباً إياه بفتح مدرسة حديثة في الرس عوضاً عن كتاتيب المطاوعة السائدة في ذلك الوقت. وفي عام 1363هـ قررت المديرية ندب الأستاذ الفاضل عبدالله بن عبدالرحمن العرفج (وهو شاهد على ما أقول) لفتح مدرسة الرس التي توجتها تلك اللافتة العتيدة بقلم الخطاط (حلمي).

شد ابن عرفج الرحال من عنيزة إلى الرس في شهر رمضان مع والدته على ظهر قعود أملح، ومع أن الرحلة في وقتنا الحاضر لا تتعدى الساعة لمن يراعي قواعد المرور إلا أنها على ظهر البعير تستغرق اليوم كله، وصل المدير قبيل الغروب ولروعة المفاجأة وجد حمد المالك يترقبه في شرق المدينة أو باب الأمير كما كان يسمى. اصطحبه إلى منزل أعده لاستقباله بعد أن زوده ببعض المؤن اللازمة للشهر الكريم، ومن ذلك عذق تمر وقربة ثم جفنة مليئة بما لذ وطاب من مطبخ أسرة المالك الشهير.

فتحت المدرسة أبوابها في منزل يملكه أحد أعيان الرس (لا حمد المالك والإشارة واضحة) وسمع أهالي الرس لأول مرة أعذب أنشودة صدح بها أبناؤهم (فيحان يا رمز العلا).

من هذه المدرسة تخرج صالح المالك، وكنت أحد زملائه، وكان عمه حمد المالك وقد لاحظ ببعد نظره أشراط الفطنة بادية عليه، يتخذه مقياساً للذكاء والتحصيل إلى درجة أن هذا أصبح مصدراً للتندر بيننا، ومن ذلك أن ابن عمه سليمان الحمد المالك (أبو منصور)- وهو أحد الزملاء في نفس السنة، وكان نابغة في الرياضيات لكن مادة النحو قد طلقته طلاقاً بائناً- عندما أعلنت النتيجة كانت مفاجأة كبرى، فقد رسب المرحوم وأنا معه في الدور الأول بينما نجح سليمان المالك، ولهول المفاجأة امتطى (أبو منصور) صهوة قدميه، وولى عدواً إلى والده يبشره بأنه نجح وأن صالح المالك سقط (هكذا)، فقال له والده على الفور بلهجة رسية لا تخطئها الأذن (تكذب).

شق المرحوم طريقه بعد ذلك من نجاح إلى آخر. تخرج من معهد الرياض العلمي ثم انخرط في كلية الشريعة وتخرج منها، وكانت هذه الكلية مرتعاً خصباً لمواهبه، إذ كانت الدراسة في ذلك الوقت تعتمد على حفظ النصوص وحدة الذاكرة، وهذه وتلك من ملكاته التي يحسد عليها.

لكنه- رحمه الله- أدرك وهو محب للبحث والاستقصاء أن الزمن يسير بوتيرة أسرع مما اختزنه من علوم ومعارف، وأن المملكة تتطور نحو آفاق جديدة تحتاج إلى من يعنون بالمنهج قبل السرد، لذلك سلك في مشواره الدراسي منعطفاً جديداً إذ قذف به فضوله العلمي إلى معاهد العلم في الولايات المتحدة إلى أن حصل على درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة ميتشجين (ان أربور) ثم شق طريقه في العمل الحكومي كما هو معروف إلى أن ألقى عصا التسيار في أمانة مجلس الشورى.

ومع تقديري للوظائف التي تقلدها قبل هذا المنصب إلا أنني أجزم أن هذه أفضل مهمة يتولاها، فهي تحتاج إلى صفات قلما تتحد في شخص واحد، منها الذكاء، والعلم، والفضول المحمود، وحدة الذاكرة، وقوة الصلة مع الآخرين، وحسن النية، والإلمام بواقع المملكة ومتطلبات التغيير ووتيرته، كل هذه الصفات أهلته لهذا المنصب الحساس، وعندما سمعت بنبأ تعيينه هاتفته مهنئاً، وكالعادة تبادلنا بعض النكت عن بعض الأصدقاء القدامى ثم قلت له: إن هذه الوظيفة (هي ولا غيرها فصلت لك كما أنك أيضاً مهيأ لها أكثر من غيرك)، وأنشدته بيتين من قصيدة أبي العتاهية الذائعة مستبدلاً كلمة الأمانة بالخلافة:

أتته الخلافة منقادة

إليه تجرر أذيالها

فلم تك تصلح إلا له

ولم يك يصلح إلا لها

وسكتنا عن البيت الثالث والرابع، فهما كما قال- رحمه الله- من غي الشعراء.

استذكرنا ما انطوت عليه هذه المحادثة من إطراء له في منزله في الرياض فيما بعد، وأكد لي جدواها عندما أردف مخبراً أنه يحتفظ في مكتبه بأضبارة كل عضو في مجلس الشورى يسجل فيها كل ما يدور بينه وبين هذا العضو من مناقشة رسمية، كما تحدثنا عن المجلس ومسيرته على نحو أكد لي أن اختياره لهذا المنصب كان قراراً حكيماً صائباً.

لقد بدأت صداقتي مع الفقيد في المرحلة الابتدائية واشتد عودها بعد ذلك، وكان وفياً لهذه الصداقة مع زملائه كافة، واستفدت من ثقافته الأدبية واللغوية على وجه الخصوص أيما استفادة، كنت -وقد قضيت عدة سنوات في معهد الرياض العلمي- حفياً باللغة العربية وآدابها وأحرص كل الحرص على مجانفة الخطأ في النطق والإعراب، ولذلك أستعين به في مناسبات عديدة، وأشهد أنه أحياناً يمهلني لكي يعود إلى بعض المراجع التي تزخر بها مكتبته، وتنشأ بيننا أحياناً مشادة فكرية في بعض المسائل لكنه في نهاية المطاف يصيب وأخطئ، وإن خالفه الصواب مرة فهو كبوة حصان لا تتكرر.

وبعد يا أبا هشام أيها الصفي الوفي النقي إن للحزن ثقافة تخرج بالإنسان السوي عن طوره، فأنا أذرف هذه الكلمات بكاء عليك من مدينة فيينا والربيع الطلق يمرح في حدائقها مختالاً ضاحكاً، لكنه مشهد لا يحرك بي ساكناً، فأنا مشغول مع تلك الأعرابية التي تنشد محتجة في رثاء أخيها:

فيا شجر الخابور مالك مورقاً

كأنك لم تجزع على ابن طريف

غفر الله للفقيد ما تقدم من ذنبه وما تأخر.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد