Al Jazirah NewsPaper Sunday  01/06/2008 G Issue 13030
الأحد 27 جمادى الأول 1429   العدد  13030
الحوار المتحضر
تزفيتان تودوروف (*)

ماذا يعني تعبير (التحضر)؟ لا شك أن التعليم البسيط، وارتداء ربطة العنق، وتناول الطعام بالشوكة والسكين، وقص الأظافر أسبوعياً لا يكفي لاستحقاق وصف (التحضر). وجميعنا ندرك تمام الإدراك أن (التحضر) في هيئته الشكلية هذه لا يمنع الناس من التصرف كالهمج.

إن (التحضر)، في كل مكان وفي كل الأزمان، يعني القدرة على إدراك وقبول إنسانية الآخرين، على الرغم من أساليبهم وأوضاعهم الحياتية المختلفة.

قد يبدو لنا ذلك التفسير الأخير وكأنه لا يحتاج إلى توضيح أو نِقاش، إلا أنه ليس مقبولاً في جميع الأحوال. على سبيل المثال، تحظى فكرة الحوار بين الحضارات عادة بقدر من التحليل الصحافي المحترم، إلا أنها في كثير من الأحوال أيضاً تقابل بقدرٍ من السخرية. كانت الفقرة الختامية من مقالة (ديانات قاتلة)، التي نُشِرَت مؤخراً للكاتب إيلاي بارنافي، تحمل عنوان (ضد الحوار بين الحضارات). والحقيقة أن حجته تتسم بقدر عظيم من الحقد والقسوة، إذ يقول: (هناك حضارة من جانب وهمجية على الجانب الآخر. وليس من الممكن أن ينشأ أي حوار بين الجانبين).

ولكن إذا نظرنا إلى حجة بارنافي عن كثب، فلسوف يتضح لنا الخلل الذي يعيبها على الفور. إذ إن معنى كل من تعبيري (الحضارة) و(الثقافة) في صيغتهما المفردة يختلف تماماً عن معناهما حين يستخدمان في صيغة الجمع. فالثقافات (بصيغة الجمع) تعبر عن أساليب الحياة التي تتبناها مجموعات متنوعة من البشر، وتشتمل على كل ما يشترك فيه أفراد المجموعة الواحدة: مثل اللغة، والديانة، وبنية الأسرة، ونوعية الطعام والملبس، وما إلى ذلك. وبهذا المعنى فإن كلمة (ثقافة) تهتم بالوصف بدون أي حكم على القيمة.

أما كلمة (حضارة) (في صيغتها المفردة) فإنها على العكس من ذلك، تندرج تحت فئة تقييمية أخلاقية: فهي عكس الهمجية. وعلى هذا فإن الحوار بين الثقافات ليس مفيداً فحسب، بل إنه أساسي بالنسبة للحضارة، ولا يمكن للحضارة أن تقوم في غيابه.

وعلى النقيض من مزاعم أنصار فكرة (صدام الحضارات)، فإن اللقاء بين الثقافات المختلفة يحدث عادة على نحو يتسم باليسر والمسالمة، وذلك لأن البشر مجهزون نفسياً لمثل هذه اللقاءات. إذ إن كل إنسان يشكل نتاجاً لثقافات مختلفة، حتى ولو لم يغادر وطنه الأصلي طيلة حياته، وذلك لأن الثقافة لا تشكل كياناً وطنياً فحسب، فكل منّا يحمل داخله ثقافة جنسه، وفئته العمرية، وثروته، وطبقته، ووظيفته.

وعادة لا يمثل هذا التعدد في الثقافات أي مشكلة بالنسبة لنا، لأن التحول من نظام ثقافي إلى آخر يشكل قُدرة بشرية عامة، ولا شك أننا لا نتحدث بنفس الطريقة مع كل شخص نلتقي به أثناء اليوم.

فضلاً عن ذلك فإن الثقافات المرتبطة بمنطقة معينة لا تتسم أبداً (بالنقاء) التام. فإذا ما توغلنا قدر الإمكان في تاريخ بلد كفرنسا، فلسوف نجد العديد من اللقاءات التي تمت بين قبائل ومجموعات عرقية مختلفة، وبالتالي بين ثقافات مختلفة: الغال، والفرنجة، والرومان، والعديد من القبائل الأخرى. وحيثما نظرنا (ربما باستثناء الأودية العميقة في غينيا الجديدة، حيث قد تظل القبائل النائية منعزلة عن بعضها البعض)، فلن نجد إلا ثقافات مختلطة. ولكن بينما تفتخر بعض الثقافات بتعدديتها، تحاول بعض الثقافات الأخرى إخفاء أو حجب هذه التعددية.

في بعض الأحيان قد يبدو مفهوم الحوار بين الثقافات متكلفاً، وقد يبدو وكأنه أمل زائف، وذلك لأننا ننتظر منه المستحيل: حل الصراعات السياسية الملتهبة. فالحوار، على الرغم من الخير المنتظر منه، غير قادر على حل القضايا المتعلقة بحرية الناس في الحركة، أو تقاسم الأرض أو الموارد الطبيعية. ولا شك أن السياسة والثقافة لا يعملان على نفس المستوى؛ فالسياسة تحكم التصرفات، والثقافة تؤثر على العقلية؛ والسياسة تتعامل مع الطوارئ، بينما قد تحتاج الثقافة لأجيال حتى تتمكن من إحداث أي تغيير.

يتعين علينا أن نعمل لصالح هذا النمط من الحوار من خلال البدء بمبادرات متواضعة. فنحن نحتاج إلى المزيد من الترجمات لأفكار وآداب البلدان الأخرى، وإطالة فترة بقاء طلاب الجامعات بالخارج، والحرص على تعلم اللغات الأجنبية، وتشجيع دراسة الثقافات الأخرى، والمزيد من اللقاءات والمواجهات بين الذكريات الوطنية القديمة (ولنقل بين فرنسا والجزائر).

قد نجد بعض المحاولات من هذا النمط في الاتحاد الأوروبي بالفعل، ولكن لابد من تقديمها في مناطق أخرى من العالم: شمال أفريقيا، والشرق الأوسط، والهند، والصين، واليابان، وأميركا اللاتينية. والحقيقة أن أفضل سبيل لإنشاء الحوار يتلخص في تجاهل الأفكار الجاهزة والتعميمات، والترويج بدلاً من ذلك للجمع بين البشر.

في زمننا الحالي اكتسبت السياسة مكانة عليا. ولكن من وجهة نظر أخرى، يتفوق الحوار على الحروب والدفاع العنيد عن كل ما ينظر إليه المرء باعتباره هويته، لأن الحوار يقربنا من النداء الباطني للإنسانية.

كان الروائي أندريه شوارتز بارت كثيراً ما يحدثنا بهذه القصة: ذات يوم سُئِل أحد أحبار اليهود عن السبب الذي يجعلنا نصنف طائر اللقلق، الذي يطلق عليه في العبرية (هاسادا) (أي المُحِب) لأنه يحب أفراد نوعه، باعتباره من بين الحيوانات النجِسة (غير الطاهرة). فأجاب الحبر اليهودي: (لأنه يمنح حبه لأفراد جنسه فقط).

***

(*) المدير الفخري لقسم البحوث بالمركز الوطني للبحوث العلمية في باريس، ومؤلف العديد من الكتب عن التاريخ والثقافة.

خاص للجزيرة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد