Al Jazirah NewsPaper Tuesday  03/06/2008 G Issue 13032
الثلاثاء 29 جمادى الأول 1429   العدد  13032

إلى جنة الخلد يا أبا هشام
د. عيد بن مسعود الجهني

 

الناس مثل معالم الطريق تمر بهم وأنت تركب قطار الحياة، بعضهم يومض لحظة ثم ينطفئ من الذاكرة وبعضهم يبقى حينا من الدهر، ولكن هناك بعض الناس مثل المحطات الرئيسة لا يمكن أن تتجاوزه ولا يمكن إن تنساه.

ومن هؤلاء معالي الأستاذ الدكتور صالح المالك رحمه الله أمين عام مجلس الشورى فإن له محبة عميقة في وجداني وأثراً كبيراً في نفسي. ولطالما ذكرته

بالخير في حياته وسأظل أذكره بالخير بعد رحيله.

ولم تكن علاقتي بالرجل الفاضل علاقة عابرة أو سطحية بل هي علاقة متجذرة استمرت حتى فرق بيننا الموت، كما أنها علاقة عميقة من الاحترام والإجلال والمحبة وهي مبرأة من الغرض والمنافع الدنيوية الزائلة.

ترجع بدايات علاقتي بالأستاذ الجليل تمتد بعيدا حيث كنت طالبا في المرحلة الإعدادية فكنت أذهب إليه في منزله العامر ليراجع معي دروسي ويشرح لي ما أشكل علي، وكان هو في ذلك الوقت يحضر نفسه للدراسات العليا وما كنت أعرف في ذلك الوقت عن الليسانس والبكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه شيئاً.

وكانت كلمة ماجستير بالنسبة لي غريبة مبهمة، وكنت أعقد أن نهاية العلم هي المدرسة الثانوية وكانت منتهى مناي وغاية مرادي.

وكان الدكتور صالح المالك الذي رحل عنا بروحه، لكن أعماله ستظل خالدة، كنت إذا قدمت إلى بيته لأتلقى الدروس على يديه يعاملني في غاية اللطف، ويبالغ في إكرامي، ولم يبد يوما مللا أو ضجرا أو ضيقا، رغم أن تلك الدروس لم تكن بمقابل مادي فهو الذي جند حياته لخدمة الدين والوطن والعلم والمبادئ.

ومنذ تلك الأيام- عرفت أنني أمام رجل من طراز فريد- خلقاً وعلما وكرما وإنسانية- فاستقر حبه في قلبي وإجلاله في نفسي.

وقد أصبح بيني وبينه مودة راسخة وصداقة عميقة وكنت أحرص إذا ابتعدت عن البلاد أن يكون عند عودتي من أوائل من أسعى إلى مقابلتهم، فعندما عدت بعد أن نلت درجة الماجستير سعيت بإصرار يحدوه الشوق لمقابلته.

في تلك الفترة كان الدكتور صالح المالك وكيلاً لوزارة الشؤون البلدية والقروية وذلك بعد أن كان استاذاً بالجامعة، فذهبت إليه في مكتبه في الوزارة، وكان لقاء حميماً.

وقد كان الحديث ذا شجون، أطربني به رقة وسقاني به علما وغمرني بعاطفة جياشة مفعمة بصدق نادر لا يصدر إلا عن قلب عامر مثل قلبه ونفس صافية مثل نفسه.

ومن المواقف التي تؤكد أنني شديد الثقة بعلمه كثير التذكر له، أنه بعد أن ترك الوزارة كنت قد أجريت مقابلة في القناة السعودية وذلك أيام غزو صدام للكويت وقد طلب مني المشرفون على البرنامج أن أرشح ضيفاً يشترك معي في المقابلة، ورد على خاطري أستاذي الدكتور صالح فذكرته لهم، وأنا على ثقة أنه قدر المهمة علماً وثقافة وقدرة على التحليل وقبولا لدى المشاهد، ولكن تلك الحلقة أجلت فلما أخبرته قال لي: لقد بذلت مجهودا كبيرا في التحضير لتلك الحلقة.

وهذا يؤكد احترامه لعلمه بل واحترامه لنفسه فهو لا يرضى إلا أن يتحدث عن علم عميق وحقائق ثابتة، فرغم الوظائف المتعددة التي شغلها فإن (روح) المعلم والأستاذ الجامعي كانت تسكن دواخله في إصرار وتقود خطاه.

وعندما التحقت بمجلس الشورى كان الدكتور الجليل قد سبقني إليه، وكان مقعده أمامي، وكنت شديد الاحتفاء بما يقول عن مشاركاتي ومداخلاتي، وأذكر أنه في إحدى الجلسات كتب لي إن مداخلتك كانت (أحسن ما قيل في هذه الجلسة).

وكان قوله وساما خصوصا أن الرجل لم يكن يجامل في الحق أو يقول غير ما يعتقد.

ولعلكم تلاحظون أنني في كل ما قلت حتى الآن لم أرث الرجل الجليل بل أنا نفسي ما فطنت لذلك رغم أني عندما جلست للكتابة إنما جلست لكتابة رثاء له، أيكون ذلك لأنني لا أريد أن أصدق أنه رحل عنا؟ أم يكون ذلك لأني أعلم أني سأعجز عن رثائه حق رثائه مهما حاولت حتى لو غمست قلمي في مداد من الدموع التي سكبتها عليه غزيرة وحرى وصادقة.

فإن عجزت أو عجزت الكلمات عن أن تفي الفقيد الغالي فأنا معذور، وكذلك الكلمات، فالرجل قامة سامقة يصعب بلوغ ذراها كما يصعب إدراك غورها والإحاطة بأبعادها.

وهو أكبر في نفسي كما في الحقيقة من أن يرثى في كلمات موجزة أو صفحات قليلة.

كان الدكتور صالح - وآه من كان هذه - بحرا ذاخرا من العلم بعيد الساحل عميق الغور غنيا بالدرر صاخبا بالحياة، عطاؤه غير ممتنع ولا منقطع، وكأن شوقي كان يقصده عندما قال:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

فلم يكن أبدا يعطي علما فجا ولا معرفة بائرة ضعيفة الأساس هزيلة الأثر.

إنه عالم في الجغرافيا والتاريخ والاجتماع والشعر يتسلح بقدرات عديدة في الإدارة والاقتصاد، فهو بحر من العلوم.

أتذكر أنني زرته وهو على السرير الأبيض وكعادته - رحمه الله - يثير موضوعات العلم وحبه النادر له فذكر لي قصة رغبة كانت دفينة عنده ليدرس القانون عندما كان وكيلا لوزارة الشؤون البلدية والقروية وعن الجامعات التي قال إنه طرق بابها ومنها جامعة القاهرة وعين شمس وجامعات أخرى لكن وقف التخصص للقبول في دراسة الحقوق عائقاً أمامه.

انظروا إلى هذا الرجل القمة، يحمل درجة الدكتوراه متميزا في علوم كثيرة ويرغب جازما أن يبدأ دراسة القانون من السنة الأولى، إنه طموح العلماء الذي يصعب أن يناله الكثيرون.

الدكتور صالح المالك وأنا أذكر رغبته في دراسة القانون اطلعت على مذكرة أعدها على ما أذكر عن انتخابات المجالس البلدية، فوجدت أفقا واسعا وعلما غزيرا في مفهوم الانتخابات وكأنه حائز على أعلى الدرجات في علم القانون وفروعه وهذا غيض من فيض من علم الرجل واسع العلم والاطلاع.

وعندما أهداني ديوانه الشعري الجميل (إخوانيات) في آخر زيارة له في المستشفى لفت نظري بين دفتيه تفاؤلية عن مستقبل المجلس البلدي:

قد أشعل النار في قلبي وفي كبدي

شوق إلى ما يسمى المجلس البلدي

أمشي تواكبني الأفراح مبتهجا

إذ كل ما أبتغي في المجلس البلدي

ما طاب لي النوم إلا بعد ما شرعوا

لنا الذي وصفوا بالمجلس البلدي

فيه النظام قوي لا اختراق له

والعدل منتظر في المجلس البلدي

ولا أذكر الكرم إلا وأذكر الدكتور المالك فقد أكرمني وأنا طالب وحتى وهو على السرير الأبيض دعاني ضيفا على استراحة أسرة آل مالك، وهي استراحة شهيرة جعلوا منها مضافة للكرم والعلم والثقافة.

- انه أستاذ علم وثقافة ولغة.

- صدر له العديد من المؤلفات.

- وألقى الكثير من المحاضرات.

- واشترك في عدد غير محدود من المؤتمرات والندوات.

- وكتب الكثير والكثير من المقالات.

- إنه نموذج مشرف للوطن وللرجال المخلصين في هذا الوطن.

- نموذج بحسن خلقه الذي هذبه الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن خياركم أحسنكم أخلاقا) مخلصا في كل عمل بدون حدود فالإخلاص من مكارم الأخلاق الفاضلة ومحاسنه وصاحبه يكرس عمله لخدمة العباد والبلاد.

- وكان الفقيد الغالي نموذجا في هذا.

- وكان رحمه الله إلى جانب حسن خلقه حليم بنطقه العلم لسانه لا يقول إلا الخير كما يقول الشاعر:

عود لسانك قول الخير تحظ به

إن اللسان لما عودت يعتاد

والحلم والأناة والصبر من الصفات التي يحبها الله عز وجل قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ}.

لقد فقدنا رجلا قمة في العطاء..

قمة في الوفاء..

قمة في الخلق..

قمة في العلم..

قمة في السمعة الطيبة والذكر العطر..

والعزاء لأسرته الكريمة وإخوانه الأفاضل وأسرة آل مالك فهم بيت علم وثقافة.

رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد