Al Jazirah NewsPaper Wednesday  04/06/2008 G Issue 13033
الاربعاء 30 جمادى الأول 1429   العدد  13033
العمال والصيف
د. فوزية عبدالله أبو خالد

على ما أذكر كان إحسان عبد القدوس هو أول من قرن في العصر الحديث بين صهيب الصيف والإشكاليات المحتملة التي قد يفجرها هذا الفصل من فصول السنة في جدار المدار الكوني حين اختار عنوان (البنات والصيف) لأحد أعماله الأدبية، وبعدها توالدت عناوين مشتقة من تلك العلاقات الموحية بين الصيف والعناصر،

فأصبحت تطالعنا الصحف مطلع كل صيف بعناوين تشي بالاحتمالات المحتقنة في العلاقة بين الصيف كمضاف إليه والمضاف الذي يجعلهما يتعالقان، وإن أتيا بصيغ قد تتعدد مثل (الشباب والصيف)، (الزواج والصيف)، (الأطفال والصيف)، (السفر والصيف)، (الفراغ والصيف)، (البترول والصيف)، (الحرب والصيف) أو كما استعير التعبير هنا في عنوان المقال (العمال والصيف). وإن لي أن ألفت نظر القارئ إلى أن موضوع اليوم ليس إلا حلقة أولى لمقال تساؤلي يتبع في تحليل حال العمل عندنا على مدار السنة، وإن ابتدأت من التداعيات الأخيرة للحدث على طريقة الأفلام السينمائية التي تبتدئ من نقطة الوسط أو النهاية.

يخرجون من بيوتهم والنجمة لا تزال واضحة في السماء، والأفق لا يزال يلمع بحلكة الغسق بعد، يحملون في أخيلتهم الرقيقة بقايا أحلام البارحة بالأهل والأصدقاء والبلاد البعيدة، ويحملون في أيديهم الخشنة زواداتهم المستديرة الصغيرة المصنوعة من الألمنيوم أو البلاستيك والمعبأة من مساء الأمس بطعام متواضع من الأرز والبهارات الحارقة، فيصعدون حافلات الشركات الكبيرة أو ظهور وانيتات أصحاب المشاريع الصغيرة والمتسببين بقاماتهم المتوثبة أو المنحنية وبسحناتهم المستبشرة والمشبعة بالأشواق أو العابسة والمتقطرة بؤساً وشقاء كما في مسرحيات أوجين أونيل عن عمال المناجم.

يأخذون طريقهم إلى مواقع العمل على طرقات تبدو لبعضهم مفروشة بالأماني ولبعضهم الآخر مفروشة بالمجهول. فلا يلبثون بعد بضع ساعات أن ينعكفوا مثل ألف عولجت لتتحول إلى علامة استفهام, أو مثل قامة شموع طويلة قربت من نار. ولا تلبث حالة ندى الفجر التي خرجوا بها من بيوتهم الرثة الصفيح أو (الأبلكاش) بأقصى المدن أن تتحول إلى حالة من أحواض الملح المذاب بماء يفور. فتتحول حبات عناقيد العنب التي كانت تندلع من عيونهم أملاً أو قلقاً إلى سائل أسود لزج من العرق الممزوج بذوب الروح وشح الأوكسجين في الدماء على حد تعبير غادة السمان في حديثها عن تجربة رحلة بحرية في صيف تايلند. فهل سبق ولاحظ معالي وزير العمل بعينه الشاعرة وقلبه العاشق وعقله النقاد، كيف يصهر صهيب صيف جدة وجيزان والرياض وحفر الباطن وسواها من المواقع التي يتعامد عليها خط الاستواء نخاع العمال لدرجة أن أياً منا لو عبر بهم والتفت بشكل عابر من شباك السيارة المثلج والمظلل ولم تسخن أطرافه بعد من برودة مكيفات المكاتب, لرأى رأي العين شحم آذانهم يسيل على أكتفاهم وبؤبؤ أعينهم ينقط على خدودهم. فكيف بالله يتسنى لنا أن نغض الطرف أو نتظاهر أننا لا نرى تلك المشاهد المنتحبة أمامنا بكل اللغات إلا منظراً طبيعياً معتاداً لأولئك العمال وهم يصطلون تحت شمس بلادنا الحارقة وكأننا نطالع لوحة ل(ماتييس) أو (مانيه) في مرسم أو كتاب. كيف بالله نضع رؤوسنا على وسادة القيلولة فلا تخرج أشباحهم وقد علقت بأطرافها قطع من لهب الصيف تلاحقنا وتحاسبنا على ما يلحق بهم من احتراق. كيف نغمس أنفسنا في (المسابح)، كيف نطير بريشنا إلى المنتجعات في نيس وكان وفينسيا والبندقية وميلان وسويسرا وجزر الكناري وكاليفورنيا أو حتى أبها والطائف بينما لا نرمي على اشتعال أجسادهم في قيظ الصيف قليلاً من الرمل أو رشة من ماء..؟

إن ما قلته أعلاه لا يصل ولا إلى تمثيل لقطة سينمائية صغيرة بالأبيض والأسود من حال العمال في الصيف سواء كانوا عمال طرقات أو مبانٍ أو صرف صحي أو تمديد كهرباء أو سواها من الأعمال التي تتطلب الوقوف في جنح حرارة الصيف بصدور عارية وأجنحة مفرفطة. فماذا نحن فاعلون لهم وقد لاحت تباشير هذا الصيف اللافح، وما زلنا في بداية الجوزاء. ماذا نحن فاعلون إذا اشتد الهجير فتفسخ الأرواح عن الأجساد، تتلوى أغصان الشجر وتتكسر سبائك عسيب النخل، تتجعد أشرعة المظلات، يتشقق الطين وتتقشر النورة، تتخبط العصافير والطيور في كبد السماء وتنتشر سحابة دخان غامق ورائحة شواء غامضة في الفضاء فلا تصل إلى أولئك منا ومن سوانا الذين يصدون نوافذهم ويغلقون عيونهم ويتلثمون ويرتجون أبوابهم على هواء المكيفات. ولا يشعرون أو يشعرون بأنهم لا يشعرون بدوامة الحرائق فيما يظنونه خارج دائرة اهتمامهم أو اختصاصهم.

فما العمل الذي يمكن أن نفعله، وما المطلب الذي يمكن أن نتقدم به بتلفت أو استحياء إلى صاحب القرار ومن بيده الحل والعقد للنظر بعين الرحمة وللتعامل وفق المقتضيات القانونية لحقوق الإنسان في حال العمال في ظهيرة الصيف. فلا نكون كالتي في الصيف ضيعت اللبن، فلا نضيع فرصتنا في سَنّ سُنّة حسنة نبرهن بها على نزعتنا الأصيلة وخلفيتنا الحضارية في حفظ حقوق الإنسان وعدم تضييع حقوق العمال. خاصة أننا سلالة ذلك الموقف المبدئي الذي يلزمنا بأن نعطي العامل أجره قبل أن يجف عرقه وأن نستمد من رحمة الرحمن ما ينشر الرحمة بين الأحياء على الأرض.

ومع أن عنوان المقال أعلاه لا يأبه من قريب أو بعيد كما قد يوحي أو كما قد يحلو للبعض أن يستوحي منه من موقف التعاطف أو الاستنكار أن يستعيد لكلمة العمال بريق الستينات بالعالم العربي أو بريق العشرينات في العالم الغربي وشعارات التغني بآلامهم وآمالهم بينما هم يقبعون في القاع بعيدا عن صناع تلك الشعارات بمسافة أكبر من أن تطال إلا عدداً قليلاً منهم بالمباهج والرهجة التي كانت تثيرها الكلمة في أخيلة مثقفي تلك المراحل المبتعدة وهوى سياسييها، فقد مضى على مد وجزر تلك المرحلة ما يقارب نصف قرن, فإن ذلك العنوان والمقال برمته يعني بلا شك ويرمي إلى استنهاض وقفة ضميرية تصحح وضع العمال من شروط العمل القاسية إن لم نقل غير الإنسانية في العمل تحت حرارة الشمس التي لا يطيقها بشر ولا حجر في حموة أشهر الصيف خاصة في شهر (آب اللهاب) كما يصف شهر (أوغسطس) أهل بلاد الشام.

قد أقترح هنا بما قد يحنق أرباب العمل والمصالح وبما قد لا يرضى عنه العمال أنفسهم الذين اعتادوا شواظ الصيف فيخشون أن يربك روتين يومهم، أن توقف ساعات العمل بين الساعة العاشرة صباحاً والساعة الرابعة بعد الظهر.

قد أقترح أن يتحول نظام العمل في الصيف بالنسبة إلى العمال تحديداً من نظام النهار إلى نظام مسائي يبدأ من الخامسة قبل الغروب بقليل إلى ما قبل منتصف الليل.

قد أقترح اقتراحاً ليس ساخراً تماماً، مستوحى من الخيال العلمي بأن يعفى العمال البشريين من العمل في الصيف ويسرحون إلى بلادهم على أن يقوم بالعمل نيابة عنهم لئلا تتعطل عجلة الأرباح السريعة وتتوقف (قافلة التنمية) و(كرفان البناء والإعمار) عمال آليون أو (روبوتات). أو نقوم باستقدام أي مخلوقات من كواكب أخرى لا تصاب بضربة شمس من العمل تحت رحمتها القاسية في أشهر الصيف. كما قد أقترح بأن يدخل العمال معنا مثل معظم الموظفين وربات البيوت وأصحاب رؤوس الأموال في سبات الصيف.

غير أن المشكلة الكأداء أنني غير واثقة بأن أياً من تلك المقترحات الرومانسي أو السريالي منها قد يروق الأخذ ببعضها لوزارة العمل. فلا يبقى إلا أننا نتمسك بأمل أن يأتي وزير العمل بطاقمه من الاستشاريين والخبراء وبطاقاته الشعرية الخلاقة بحل وإن لم يكن سحرياً يحل مأساة العمال في الصيف. فهل من يوافقني الرأي أو على الأقل يسمع استغاثات تلك الأرواح الصامتة..؟

وما دام الشيء بالشيء يذكر فلا بد أن نحذر، والمقصود بكلمة (نحذر) الخط العريض من مغبة ترك بعض المواطنين لعمالهم لأشهر بدون رواتب, فحينئذٍ ليس لنا إلا أن نلوم أنفسنا على تفشي الاحتيال والسرقات والجرائم لمن يتركه رب عمله لا يجد قوت يومه.

كما أنني في هذا السياق أطالب بأن يشمل تأمين العمل والتأمين الصحي جميع العمال من المواطنين والمقيمين، وهذا موضوع يستحق وقفة أكثر تأنياً نناقشه باستفاضة، إلا أن المطلوب باختصار ألا يكون هناك عمال خارج الضمانات الحقوقية التي تؤمنهم في مستحقاتهم وتؤمننا كمجتمع من مخاطر التهاون في حقوق بعضنا البعض وحق الوطن علينا.

هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.



Fowziyaat@maktoob.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5148 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد