Al Jazirah NewsPaper Wednesday  04/06/2008 G Issue 13033
الاربعاء 30 جمادى الأول 1429   العدد  13033
وثيقة المدينة المنورة وصناعة التاريخ

المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار:

*. ومن هذا التوجيه الرباني للمسلمين عامة أينما كانوا كان ولا يزال عنوان تلاقيهم مع إتباع الديانات الأخرى، وهو أي الحوار نقطة انطلاقهم لسماع ما لدى غير المسلمين ومن ثم إسماعهم سماحة وعظمة الإسلام.

ولرغبة صادقة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في إيصال رسالة الإسلام الخالدة إلى جميع أطياف الناس في بقاع المعمورة، كانت دعوته (حفظه الله) مدوية للعالم إلى الحوار العقلاني الذي يسهم في ارتقاء الفكر ويغذي الروح بقبسات من الوحي الرباني. انطلقت رابطة العالم الإسلامي إلى إعداد العدة لعقد المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار في جنبات مكة المكرمة برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- وبحضور لفيف من العلماء والمفكرين، ليتدارسوا ويقوِّموا تجارب الحوار السابقة، ومن ثم يؤسسوا لمرحلة جديدة وفق رؤية متكاملة لمشروع الأمة في القرن الحادي والعشرين، للتعريف بالإسلام، عبر جهاد الكلمة، من خلال رفع سقف الحوار ليقرب ولا يبعّد.

أما إذا ما بحثنا في توجيه خادم الحرمين الشريفين لإعادة حوار الأديان في هذه المرحلة الزمنية بالذات فإن المتابع في قراءة متأنية لفكر الملك عبدالله فيما يخص حوار الأديان بما يعود على المجتمع العالمي بالفائدة، فإننا نجد وضوح القصد لإظهار الصورة الحقيقة لعظمة الإسلام، ومن المقصد النيل الذي يأخذنا إلى أن خادم البيتين استشعر المسؤولية الدينية ليس لأنه مسلم فقط ولكن من مسؤوليته كحاكم للديار السعودية وفيها أطهر بقعة على وجه المعمورة بيت الله الحرام الذي يتجه إليه المسلمون من شتى بقاع الأرض وفيها المقدسات الإسلامية التي يفيد إليها ملايين المسلمين في كل عام للحج والعمرة أو للزيارة، ولم يغفل الملك عبدالله بن عبدالعزيز المهمة التاريخية التي تقلدها، فكان صانع تاريخ يحسب له على مر العصور القادمة حتى يصل إلى مرحلة يخرج فيها المجتمع من انغلاق الماضي ليعيشوا في الزمن الحالي بكل معطياته من غير أن يخل بالنهج المحمدي الإسلامي، ليمد نظره إلى أبعد من واقع الحاضر.. إلى المستقبل في صورة استشرافية لمستقبل المسلمين ولا سيما بعد أن حلت بالعالم تغييرات عدة، كانت بدايتها من أحداث الحادي عشر من سبتمبر وإفرازاتها التي طالت العالم الإسلامي أينما كانوا تارة بوصمهم بالإرهاب الديني وآخر بالإرهاب العرقي والإرهاب الأيدلوجي وغيرها من المسميات التي لم تكن لأحد من غيرهم على كثرة الأحداث الإرهابية التي كانت في بدايتها خارج إطار الإسلام ومن يدين به، فكان خادم الحرمين الشريفين يسابق الزمن في حكمة محسوبة له في تاريخ العظماء لإعادة تشكيل الخطاب المعاصر للمملكة فكان البداية داخلياً في حوار مفتوح بين أطياف المجتمع السعودي. كانت محل قبول المتابع من خارج الوطن واستحسان وتفاعل المواطن في الداخل مع أطروحاته ومخرجاته، وفي ذات الوقت كان محل استحسان الملك عبدالله بن عبدالعزيز وهو يقول: ألمس الأمل الكبير بعد الله في أبناء هذا الوطن بجميع توجهاته الفكرية الخيرة المتمسكة بثوابت العقيدة والأخلاق والحس الإنساني بالرغم من تعدد الأفكار.

لذا أكد خادم الحرمين الشريفين أن دائرة الحوار الداخلي حققت نتائج إلا أنه يجب أن يكون الحوار الوطني بعداً يتجاوز الحدود ليكون أوسع وأشمل في منظوره للعالم الخارجي مستمداً معطيات ما يتأمل أن يكون عليه من بوابة كبيرة نطل من خلالها على العالم الخارجي بكل ما لديه من معارف مسخرة لخدمة البشر، وفي ذات الوقت نقدم لهم ما يزخر به هذا البلد المسلم من تاريخ ليس لأمة مثله من الشمول في مناحي الحياة، لأن مساحة الكرة الأرضية تتسع للجميع فلن يضيرها أن نكون كما كان السلف عامل بناء وفكر وعلم، فقد كان واضحاً حفظه الله وهو يقول: إن عصرنا هذا توسع في نقل الأفكار بانفتاح لم تعهده الإنسانية في تاريخها فهل نجفل منها أم نفتح بيتنا التاريخي وميراثنا العظيم لنرى دورنا الكريم وشراكتنا الإنسانية في أروع القيم والمفاهيم والمسؤوليات وهي تتصدى لدورها الأخلاقي بثوابت دينها الإسلامي.

لذلك علينا أن نمارس حقنا مع التاريخ بثقة المؤمن المتوكل على الله في كل حوار يخدم عقيدتنا الإسلامية ومبادئ السلام والإنسانية في هذا العالم وفق رؤية نستمدها من رحابة ديننا العالمي.

وإذا عدنا إلى عمق فكر القيادة السعودية واتساع مساحة الحوار الديني ليس بتجاوز الآخر بل معه حتى يتم الوصول إلى منهجية، فإننا نجدها تسابق الزمن للوصول إلى الآخر برؤية دينية عنوانها الحوار الديني لن تخرج عن قول الحق ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ولن تتجاوز قول الباري وجادلهم بالتي هي أحسن. فكانت مبادرة خادم الحرمين عندما قام بزيارته التاريخية لبابا الفاتيكان في سنة 2007م. تلك الزيارة كانت محل جدل بين كثير من المسلمين منهم من كان مؤيداً لفتح صفحة جديدة مع الآخر لبيان عظمة الإسلام وقبوله بكل الأديان التي سبقت الدين الخاتم الذي أنزل على خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، في حين أن هناك من المسلمين من لم يتفق مع زيارته لبابا الفاتيكان بند يكتوس السادس عشر، بعد أن تطاول على الإسلام بما لا يرضي المسلمين عن خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل.

صحيح أن بند يكتوس السادس عشر له موقف تجاه الإسلام وقد يكون له مواقف تجاه من يدين بالإسلام على اختلاف مذاهبهم، إلا أن شريحة كبيرة من المسلمين بين مفكر وعالم تنوعت ردودهم وتباينت وجهات كل منهم في الرد، متفقة كلها أن بابا الفاتيكان وقع في خطأ، ومما يؤكد خطأ الباب أن الاحتجاج المكتوب لم يكن مقتصراً على من يدين بالإسلام بل من غير المسلمين، وهو: أوري أفنيري -يهودي- يقول: بصفتي يهودي ملحد، أنا لا أنوي أن أكون طرفاً في هذا النقاش. غير أني غير قادر على التزام الصمت حيال مقطع واحد، يدعي البابا أن النبي محمد قد أمر أتباعه بنشر دينه بقوة السيف، وهذا أمر غير منطقي (صحيح أن البابا لا يخطئ ولكنه أخطأ هنا: لقد قصد الآية 257. لقد جاء فيها: (لا إكراه في الدين!)).

ثم إن- افنيري- يتساءل ليوضح بقوله: كيف يتجاهلون قولاً بسيطاً وقاطعاً إلى هذا الحد؟ يدعي البابا أن هذه الآية قد كتبت في بداية طريق محمد، بينما كان ما زال يفتقر إلى القوة، ولكن مع مرور الوقت، أمر باستخدام السيف من أجل الدين. لا يوجد لمثل هذه الوصية أي ذكر في القرآن. علينا أن ننظر إلى تعامل الإسلام مع الديانات الأخرى حسب اختبار بسيط: كيف تصرفوا (يقصد المسلمين) خلال أكثر من ألف سنة، بينما كانت القوة بين يديهم، وكان بمستطاعهم (نشر دينهم بقوة السيف). هم لم يفعلوا ذلك. لقد سيطر المسلمون على اليونان مئات السنين. هل اعتنق اليونانيون الإسلام؟ هل حاول أي شخص إدخالهم في الإسلام؟ على العكس، لقد شغل اليونانيون وظائف كبيرة في الحكم العثماني. كما أن شعوب أوروبا المختلفة مثل البلغاريين، الصرب، الرومانيين، الهنغاريين، الذين عاشوا فترات طويلة تحت حكم الأتراك، قد تشبثوا بدينهم المسيحي. إن أحداً لم يجبرهم على اعتناق الدين الإسلامي، وظلوا مسيحيين متدينين.

لقد أسلم الألبان وكذلك البوسنيون، ولكن أحداً منهم يدعي بأنهم قد أكرهوا في ذلك. لقد اعتنقوا الدين الإسلامي ليكونوا محببين إلى السلطة وليتمتعوا بخيراتها.

إلى أن يقول - افنيري- في عام 1099 احتل الصليبيون القدس وذبحوا سكانها المسلمين واليهود من دون تمييز، وكانت هذه الأمور تنفذ باسم يسوع طاهر النفس. في تلك الفترة، وبعد 400 سنة من احتلال المسلمين للبلاد، كان ما زال معظم سكان البلاد من المسيحيين. طيلة كل تلك الفترة لم تجرى أية محاولة لفرض دين محمد على السكان. بعد أن طرد الصليبيون من البلاد فقط، بدأ معظمهم بتبني اللغة العربية واعتناق الدين الإسلامي - وكان معظم هؤلاء هم أجداد الفلسطينيين في أيامنا هذه. حيث لم تُعرف أية محاولة لفرض دين محمد على اليهود. لقد تمتع يهود إسبانيا، تحت حكم المسلمين، بازدهار لم يسبق له مثيل في حياة اليهود حتى أيامنا هذه تقريباً. شعراء مثل يهودا هليفي كانوا يكتبون باللغة العربية، كذلك الحاخام موشيه بن ميمون (الرمبام). كان اليهود في الأندلس المسلمة وزراء، شعراء علماء. لقد عمل في طليطلة المسلمة مسلمون، يهود ومسيحيون معاً على ترجمة كتب الفلسفة والعلوم اليونانية القديمة. لقد كان ذلك (عصر ذهبي) بالفعل.

ثم إن الباحث اليهودي - افنيري- يتساءل بعد ذلك كيف كان لهذا أن يحدث كله، لو كان النبي محمد قد أمر أتباعه (بنشر الإيمان بقوة السيف)؟ ولكن المهم هو ما حدث لاحقاً، حين احتل الكاثوليكيون إسبانيا من أيدي المسلمين، فقد بسطوا فيها حكماً من الإرهاب الديني. لقد وقف اليهود والمسلمون أمام خيار قاسٍ: اعتناق المسيحية أو الموت أو الهرب. وإلى أين هرب مئات آلاف اليهود، الذين رفضوا تغيير دينهم؟ لقد استقبل معظمهم على الرحب والسعة في الدول الإسلامية. لقد استوطن (يهود الأندلس) من المغرب في الغرب حتى العراق في الشرق، من بلغاريا (تحت حكم الأتراك آنذاك) في الشمال وحتى السودان في الجنوب. لم تتم ملاحقتهم في أي مكان. لم يواجهوا هناك أي شيء يضاهي تعذيب محاكم التفتيش، لهيب المحارق، المجازر والطرد الذي ساد في معظم الدول المسيحية حتى حدوث الكارثة.

لماذا؟ لأن محمد قد منع بشكل واضح ملاحقة (أهل الكتاب). لقد تم تخصيص مكانة خاصة في المجتمع الإسلامي لليهود وللمسيحيين. لم تكن هذه المكانة مساوية تماماً، ولكنها كادت تكون كذلك. كان يتوجب عليهم دفع جزية خاصة، ولكنهم قد أعفوا من الجيش مقابلها - وهذه الصفقة كانت مجدية جداً لليهود. يقولون: إن الحكام المسلمين قد عارضوا محاولات إدخال اليهود في الإسلام حتى بالوسائل اللطيفة، كل يهودي مستقيم، يعرف تاريخ شعبه، لا يمكنه إلا أن يشعر بالعرفان تجاه الإسلام، الذي حمى اليهود طيلة خمسين جيلاً، في الوقت الذي كان العالم المسيحي فيه يلاحقهم وحاول في العديد من المرات إجبارهم على تغيير دينهم (بالسيف). قصة (نشر دين محمد بالسيف) هي أسطورة موجهة، جزء من الأساطير التي نشأت في أوروبا أيام الحروب الكبيرة ضد المسلمين.

هذا النص المدون باسم -افنيري- يحتاج إلى إثبات مصداقيته بأسلوب علمي لا يقبل القياس أو التأويل، وهذا يأخذنا إلى أن نغرق في الماضي لنشخص النص المنظور.. كتب السيرة المحمدية تعود بنا إلى سيرة ومسيرة نقف منها على الوثائق الإسلامية بدايتنا من أول لقاء بين الإسلام -الدولة- وبين غير المسلمين المواطنين في دولة إسلامية هو الذي حدث في المدينة المنورة غداة الهجرة النبوية إليها.

من ذلك يقول المفكر الإسلامي - العوا- كان لا بد للدولة من نظام يرجع أهلها إليه، وتتقيد سلطاتها به (دستور). عندئذ كتبت بأمر الرسول صلى الله عليه وسلَّم -والغالب أنها كتبت بإملائه شخصياً- الوثيقة السياسية الإسلامية الأولى المعروفة تاريخياً باسم: وثيقة المدينة، أو صحيفة المدينة، أو كتاب النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى أهل المدينة، أو كما يسميها المعاصرون: دستور المدينة, وفي هذه الوثيقة نقرأ أنها:

- كتاب من محمد النبي رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛

- أنهم أمة من دون الناس؛

- وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.

- وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.

- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

- وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم.

- وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

- وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

- وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

- وأن ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.

- وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف.

- وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

- وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

- وأن لبني الشُطَيْبة مثل ما ليهود بني عوف. وأن البر دون الإثم.

- وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.

فهذه تسع قبائل، أو تجمعات، يهودية، تنص الوثيقة عليها وتقرر لهم مثل ما ليهود بني عوف، وتضيف إلى ذلك أن مواليهم وبطانتهم كأنفسهم.

- وتقرر الوثيقة النبوية أن بينهم النصح -هم والمسلمون- على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصر والنصيحة، والبر دون الإثم، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره (أي الله شاهد ووكيل على ما تم الاتفاق عليه.

فهذه الوثيقة تجعل غير المسلمين المقيمين في دولة المدينة مواطنين فيها، لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، وعليهم من الواجبات مثل ما على المسلمين.

ومن هذه الوثيقة نجد مصداقية - افنيري- في مقاله لأنه اعتمد على منهج المصطفى -محمد- صلى الله عليه وسلم في دستوره الأول مع سكان المدينة المنورة متعددة دياناتهم مع الدين الإسلامي في مرحلة بداية الهجرة، ثم إن ذلك الكاتب اليهودي واصل مسيرة البحث والتقصي بالأرقام إلى مواكبته الحاضر ليصل إلى تلك النتيجة بأن الإسلام يتسع للكل ولم يقصِ أي دين مهما كانت درجة الاختلاف، وعلى هذا الأساس فإننا كمتابعين نقر بمصداقية بحثه ونعده مع المنصفين من المستشرقين الذين بهرتهم عظمة الدين الإسلامي وأسرهم حب خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم.

ما أردت الوصول إليه من عرض هذه الأطروحات التي تؤكد على كبر مساحة استيعاب الآخرين، وسماحة الإسلام والمسلمين واستحضار السيرة العطرة في العمل والتعامل لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم لنصل إلى بعد نظر خادم الحرمين الشريفين لإقامة مؤتمر عالمي للحوار الديني الإسلامي في مهبط الوحي ليكون انطلاقة ذات جدوى لحوار الأديان القادم بحصيلة معرفية يزيد من تراكماتها المعرفية هذا المؤتمر وما يُقدم فيه من أوراق واجتماعات تمحور بعمق في قالب حوار الأديان.

صالح بن خميس الزهراني



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد