Al Jazirah NewsPaper Friday  06/06/2008 G Issue 13035
الجمعة 02 جمادىالآخرة 1429   العدد  13035
كاتب مصاحف المدينة المنورة .. عثمان طه ل(الجزيرة:
هذه قصتي مع كتابة المصحف الشريف

المدينة المنورة - خاص ب(الجزيرة)

أربعون عاماً يكتب المصاحف، يجد المتعة والسعادة وهو يخط آيات الله بقلمه الذي يلازمه منذ زمن، وحوّله من (قلم رسم) إلى (قلم خط)، خطّ كتاب الله برواية ورش عن نافع، وبرواية حفص، ويحلم أن يمدّ الله في عمره ويتم كتابة القرآن الكريم بجميع الروايات.

رحلة الفنان عثمان طه، كاتب مصاحف المدينة المنورة، وخطاط المجمع، مع الخط وبداياته، وكيف بدأ في كتابة المصحف .. يحكيها في هذا الحوار ل(الجزيرة):

* لا شك أنّ الخط موهبة، بل ومن أكثر المواهب الذي تحتاج إلى مهارات وتدريب وإتقان، كيف اكتشفت موهبة الخط لديك؟ ومن الذي اكتشف هذه الموهبة، وفي أي مرحلة دراسية؟ وكيف بدأت رحلة التدريب، والتأهيل في الإتقان؟

- لا نجاح ولا إبداع بدون موهبة، أحببت الخط وأنا في السادسة من عمري، لاحظ والدي ذلك مني، وكان يؤنبني على انشغالي بالخط عن الدراسة، فكان يقول: (يا ابني ادرس ادرس (يعني ستكتب قرآن إن شاء الله)؟ العلم أولى بالاهتمام)، ولذلك كنت أختبئ عنه حين أقلِّد خطوط الكتب المتنوّعة لديه، وكان - رحمه الله - حريصاً على تعليمي القرآن، وتحفيظ متون اللغة والحديث والفقه، وكان يقول احفظ أولاً ثم تفهم بعد ذلك (العلم في الصغر ....)، وكان الخط قد أخذ جلّ وقتي بعد رجوعي من المدرسة، وكان شغلي الشاغل، انقطعت عن أقراني فلا أجتمع بهم، ولا ألعب معهم، وبدأت أميل شيئاً فشيئاً إلى العزلة.

أمّا رحلة التدريب والإتقان فأخذت مني سنين عديدة، وكان الاهتمام بالخط والدراسة خطين متوازيين، ما كنت أتعب ولا أمل من التمرين والتدريب، ففي المرحلة الدراسية المتوسطة والثانوية كنت أمر على الخطاطين في مدينة حلب، وأراقبهم كيف يكتبون، وما هي الأدوات التي كانوا يستخدمونها أثناء الكتابة وكان أهلي يلقبونني باسم (أيوب) لشدة صبري، وطول بالي.

* كتابة المصحف الشريف أمل، بل أشرف الأعمال التي يتوق إليها أي خطاط، فكيف كانت بداية دخولك لعالم الخط القرآني؟ ورحلتك في كتابة المصحف؟

- كتابة المصحف كانت هدفي وأملي الذي كنت قد وضعت نصب عيني على تحقيقه، ولا شك أن كتابة المصحف هي الدافع الأساسي لكل خطاط .. يتمرن ويتعلم ويكشف أسرار هذا الفن، لكي يتشرف ويتوّج عمله بكتابة مصحف يخلد ذكراه، وتبركاً وتقرباً إلى الله تعالى .. وبعد أن تجاوزت الثلاثين من عمري، وبعد معاناة في رحلة الإتقان، بدأ يظهر الجودة والحسن في خطوطي، وبدأ الناس يتكلمون بأنّ خطي يأخذ طريقه إلى التميز والارتقاء، وخاصة في كتابة عناوين الكتب، وبعض اللوحات الخطية، إلا أنني مع هذا كنت أتهيب من الإقدام على كتابة المصحف، وكنت أراها مرتقى صعباً، ولا يزال الوقت مبكراً، وفي عام 1970م، استدعاني وزير الأوقاف السوري الشيخ عبد الستار السيد، وقال: (إن رئيس الجمهورية طلب مني أن يُكتبَ له مصحف، فما وجدت أولى منك على هذه المهمة، فما رأيك؟)، تفاجأت وخفت وأخذتني الرهبة، فما زلت صغيراً على ذلك، ولكني أمام إلحاح الوزير وافقت - متكلاً على الله تعالى - على أن يأخذ بيدي ويسدد خطاي، وبدأت أكتب تحت إشراف لجنة علمية، وبالرسم العثماني، وكل صفحة تبدأ بآية وتنتهي بآية، وانتهى المصحف بفضل الله، وطُبع ووُزع من قِبل رئيس الجمهورية كهدية للمسلمين في العالم، ثم كتبت مصحفاً آخر بالرسم العثماني أيضاً لصالح المفتي العام للجمهورية الشيخ الدكتور محمد أبي اليسر عابدين رحمه الله تعالى، طُبع هذا المصحف أيضاً مرات عديدة، وانتشر في أنحاء العالم.

* متى التحقت بالعمل في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف؟ وهل كانت هناك قصة؟

- في عام 1986م، تقاعدت من عملي كمدرس في وزارة التربية والتعليم، وفي عام 1988م، استدعيت إلى المملكة كخطاط للمجمع، وكاتباً لمصاحف المدينة المنورة، حث كلفت أولاً بكتابة مصحف برواية ورش تحت إشراف اللجنة العلمية برئاسة الدكتور الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي إمام المسجد النبوي الشريف، وخلال سنة ونصف تقريباً انتهيت من كتابة هذا المصحف بتوفيق الله تعالى، على أساس في اليوم عشر ساعات عمل، ثم كتبت مصحفاً آخر برواية حفص (صفحة لا تنتهي بآية)، ثم كتبت مصحفاً آخر برواية حفص أيضاً صفحات تبدأ بآية وتنتهي بآية، وقد وضعت في كتابته جل اهتمامي، وعصارة فني، فكان آية في حسن الخط، وصحة الضبط، وبأسلوب متميز، ثم تابعت إنجاز بقية الروايات (رواية قالون - ورواية الدوري) بفضل الله وتوفيقه.

* هل هناك أدوات خاصة لكتابة آيات المصحف غير الأدوات التي يستخدمها الخطاط في كتابة اللوحات؟

- استعملت في كتابة المصاحف قلماً كان يستخدمه المهندسون في رسم المخططات (روترينك)، ونجحت في تحويله من قلم الرسم إلى قلم الخط منذ أكثر من اربعين سنة، حيث كتبت المصاحف بهذا القلم لما له من ميزات عديدة.

* منذ متى وأنت تكتب المصاحف؟

- منذ عشرين سنة وأنا اكتب المصاحف المطلوبة، بالإضافة إلى الأعمال اليومية التي تحتاج إليها كافة فروع وأقسام المجمع.

* خطاط المصحف هل يختلف عن أي خطاط آخر؟

- خطاط المصحف يجب أن يكون متقناً لقواعد الخط، وخاصة خط النسخ، ومؤهلاً من الناحية العلمية والفنية كإلمامه باللغة العربية، وقريباً من فهم القرآن الكريم، ومعاني آياته، وأن يتقي الله ما استطاع في عمله هذا، {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}.

* نظراً لقدسية المصحف، وأنه لا يجوز الخطأ في حرف أو علامة من علامات النحو، فالأمر يحتاج إلى ضبط محكم، وفريق عمل يعاونك .. حدثنا عن فريق العمل الذي يساعدك، وممّن يتكّون؟

- موضوع الخطأ فلا يسلم منه أحد، ولكني بخيل جداً في هذا المجال بتوفيقه تعالى، ولذلك ترى صفحات المخطوط في منتهى النظافة والإتقان، فلا ترى فيها ما ينافي جمالها ورونقها، لخلوها من الحك واستعمال المزيل، فإذا حدث ووقع خطأ ما فهنالك لجنة علمية للمراجعة فهم بالمرصاد لذلك، وأنا بدوري أقوم بمعالجة هذا الخطأ بحيث لا يظهر على المخطوط غالباً.

* هل يتم الاتفاق أولاً على كتابة الآيات، أم تكتب الآيات وبعد ذلك تعرضها على العلماء والمدققين؟

- يتم عادة كتابة الصفحات أولاً دون تشكيل لسهولة المراجعة، وبعد التأكد من صحة ما كتب يبدأ الضبط والتشكيل ثانياً.

* ما هي أشهر الروايات التي كتبت بها المصحف، أو التي تفضلها في الكتابة؟

- بخصوص اختيار الروايات، فالمراجع العليا في المملكة هي التي تقرر هذه الروايات، وهي أدرى بما يحتاج إليه العالم الإسلامي في هذا المجال، والمجمع يقوم بتنفيذ ذلك، وعلى أية حال قام المجمع بإنجاز الروايات المشهورة التالية كتابة ومراجعة وطباعة (رواية حفص - ورواية ورش - ورواية قالون - ورواية الدوري)، والعمل مستمر لإكمال بقية الروايات.

* مراقبة النص بعد كتابته من الخطاط كيف تتم؟

- يبدأ عمل مراقبة النص بعد انتهاء اللجنة العلمية من مراجعة المصحف المخطوط، وتسليمه للمونتاج، بحيث تقوم مراقبة النص في الأخطاء التي تحصل أثناء الطباعة.

* قصص لا يمكن أن تمحوها الذاكرة خلال الأربعين عاماً التي قضيتها في كتابة المصحف؟

- هناك العديد من القصص التي لا تنسى، ولكن منها قصة لا يمكن أن تنسى وهي: في يوم من الأيام لاحظت بعد كتابة صفحة من القرآن الكريم قد أُكِلَت أحرُفُها، وزال أكثر كلمات الصفحة، فتعجبت كيف حصل ذلك؟! وذهبت بي الظنون بعيداً، وفكرت يوماً بكامله وأنا في حيرة من أمري، ثم اكتشفت السر أخيراً، وهو أن الخطاطين الأوائل ذكروا في كتبهم أن الحبر إذا أضيف إليه شيء من السكَّر يزيده لمعاناً وجمالاً، فعلمت أن السبب هو الذباب، يأتي ويأكل الحبر بسبب السكَّر الذي فيه، ثم اعتمدت إلى تغطية الصفحات القرآنية بعد كتابتها.

* هل ورّثت كتابة المصحف لأحد من أبنائك؟ ومن هم تلاميذك؟ ومن هم علماؤك الذين تتلمذت على أيديهم؟

- ابني الأصغر أحمد تعلّم مني أكثر أنواع الخطوط وتخرّج من معهد الفنون التطبيقية في دمشق، وهو بارع في تصميم الزخارف الإسلامية، والشعارات، وأغلفة الكتب، وما إلى ذلك من الأعمال الفنية، واتبع كثيراً من الدورات في مجال الحاسوب، وله باع طويل، وموهبة نادرة في استعمال هذا الجهاز، وللأسف ليس لي تلاميذ يعيشون معي وتحت إشرافي لكوني موظفاً لدى الدولة، وليس لي مكتب عمل خاص، أما من يقصدني في إعطاء توجيهات وملاحظات فباب منزلي مفتوح للجميع استقبلهم وأكرمهم وأشجعهم على متابعة هواياتهم في تعلُّم الخط العربي، أما أساتذتي الذين لهم فضل عليّ خلال رحلتي في تعلُّم هذا الفن البديع فهم كثر في معظم البلاد العربية والإسلامية، كنت في هذا المجال كطالب الحديث الشريف أبحث عن أساتذة هذا الفن، وأرحل إليهم، وأقصدهم لكي أتتلمذ على أيديهم، وأحترمهم مدى الحياة (من علَّمني حرفاً كنت له عبداً)، من حيث الاعتراف بالفضل، وإلاّ فكلنا عباد الله تعالى.

* أمنية تتمنى أن تحققها بعد أن كتبت كتاب الله؟

- أمنيتي أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يمد في عمري لكي أكمل ما بدأت به من كتابة الروايات الباقية، وأن يتقبل مني ما قدمت، وأن يجعل ذلك في حسنات أعمالي، إنه هو السميع العليم .. وأتمنى أن تدخل هذه المصاحف الشريفة بيت كل مسلم، بحيث يتمتع في تلاوته، وأن يدعو لي ولوالديّ بالخير، إنه سميع مجيب، وأرجو من الله عز وجل أن يوفق من الأجيال القادمة من يتابع هذه المسيرة، وأن يهتم بالخط العربي، فهو تراثنا وفننا الأصيل، نحافظ عليه ونعتز به.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد