Al Jazirah NewsPaper Tuesday  10/06/2008 G Issue 13039
الثلاثاء 06 جمادىالآخرة 1429   العدد  13039
المواءمة بين حَتْمية تحوُّلِ (الخطاب الثقافي) وهيمنة الخصوصية والنسقية..!! 2 - 4
د. حسن بن فهد الهويمل

ومع أن هناك إمكانيةً للحوار بين مُجمل الحضارات بوصف الإنسان مسهماً رئيساً في تشكيلها، إلا أن تنامي الأزمات والصدامات يخيف المعنيين، فقد تحمل الأثرة الأقوياء لممارسة الاحتواء بالقوة وليس بالإغراء والاستدراج.

ولهذا فإن أزمة الثقافة ناتج الغزو والتآمر والفوقية والخلطِ بين الإمبراطورية السياسية والهيمنة الثقافية.

ولا شك أن هناك ثغرات ينفذ منها الغزو بكل أشكاله، ولتلافي أي نفاذ يؤثر على سيادة الأمة فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً لا بد من وضع خطة محكمة وطويلة الأجل وذات بعد حضاري مستوعب لكل الاحتمالات ولا يمكن أن يتحقق التحول الإرادي في ظل هيمنة الآخر وتحكمه في القرارات المصيرية.

وإذا كان من الضروري تبادل الخبرات بين الحضارات والخلطة البشرية عبر البعثات والاستقدام إضافة إلى التّماس بين سائر المؤسسات التعليمية والإعلامية، فإن تلك الحتميات لا تكون مُضِرةً إلا إذا وافقت قابليّةً لدى الطرف الأضعف، وهنا تختلط المفاهيم حول التحول المشروع والتبعية المحظورة وهنا يكون الموقف المتحفظ من التحول مشروعاً.

والذين يتحرجون من الحديث عن الغزو والتآمر وعقدة الخوف يجهلون أو يتجاهلون الأدوار المشبوهة التي يمارسها المبشرون والمستشرقون وسائر المؤسسات ذات الهم التغريبي، وإذا كنا نتحفظ على طائفة من الإسقاطيين الذين يحمّلون الغرب وحده مسؤولية ما تعانيه الأمة العربية والإسلامية من ضعف وتفكك، ولا نقول بالغزو والتآمر لمجرد التخلي عن المسؤولية فإننا لا نستبعد الكيد والمكر واللُّعب السياسية التي حققت الفشل أو أذهبت الربح، وخلطت بين التحول المشروع والانصياع الطوعي للآخر، ومن الخطأ الفادح الإطلاقات المعممة وتجييش العواطف لاختيار الصدام مع إمكان غيره.

والأمة التي تواجه ثورة المعلومات والاتصالات والإعلام لا بد لها من التفكير الجاد لمواجهة التحدي العصيب، ولن تتحقق المواجهة المتكافئة إلا بتربية سليمة مستجيبة لمتطلبات المرحلة ومتكافئة مع مناهج الغرب، ووعيًّ بالذات والآخر، فمن جهل نفسه فهو لما سواها أجهل، ولا بد من رقابة حضارية وإعلام منافس يستحوذ على المشاعر وينازل بندية. وعلى الرغم من أن الثقافة الغربية شائعة وسائغة ومتبعة إلاَّ أنها لمَّا تزل تلح في إلغاء ما سواها، وذلك مكمن الشقاق والتناحر، وكم كان جميلاً لو أمكن التعايش والتصالح وتبادل المنافع والخبرات وإزالة شبح الخوف والترقب. وإذ يكون من حقنا جدل الدفع فإن الأجدى والأهدى أن يكون بالتي هي أحسن، وقبل التصدي المنطقي والمشروع للثقافة المغايرة لا بد أن نحدد مرادنا وسمةَ ثقافتنا ومرجعيتها والتعرف على القواسم المشتركة بين الفرقاء داخل المنظومة الواحدة، وما أضر بالأمة إلا الاهتياج العاطفي، والتصدي الأعزل من القوة والتقدير.

ومهما أغمضنا تفادياً للصدام فإن الاختلاف مع الآخر عميق والهوة سحيقة والعداوة قديمة ومتنامية، وإذا كان من مصلحتنا تجاوز ذلك كله ومحاولة البحث عن القواسم المشتركة فإن التحرف لا يستدعي الانسلاخ ولا مسخ الذات.

والتحول المنشود لا يكون بالإذعان والانصياع، على أن هناك خلافاً مستمراً داخل المنظومة الواحدة، وهو قائم على أشده بين أبناء الثقافة الواحدة، وهو بلا شك طريق قاصد للآخر المتربص، لقد مكَّن للثقافة المهيمنة من التوغل والحزِّ إلى العظم، والاختلاف غير المعتبر لا يمكِّن من التحول بسلام وخير منه الثبات والسكينة.

وتحول الخطاب الثقافي، لا بد أن يراعي مقتضيات الوحدة الفكرية ومشروعية التعددية، ومن الخطأ الكبير تصور الوحدة الفكرية بأنها تعني واحدية الخطاب وأنها تستدعي الحدِّية الصارمة، وأكبر من ذلك استبعاد المرجعية وتصور حرية التعبير والتفكير على غير مراد الشارع، ولما كانت الوحدة الفكرية ممكنة مع التعددية والاجتهاد فإن من الخطأ التحفظ على تداول القضايا الخلافية بروح الفريق الواحد.

والتعددية المشروعة لا بد أن تحافظ على الهوية المشتركة والنسق الثقافي الواحد والقطيعة إذا قبلت بين الفرقاء فإنها لا يمكن أن تستساغ بين أبناء الحضارة الواحدة، ولا يمكن تحقق الوفاق مع الأثرة وسوء الظن وبرمجة الذات.

وليس من حق أحد أن يحمل المسؤولية من لا يتفق معه في وجهة النظر، فالأطراف كلها تقتسم مسؤولية القطيعة، وإذا كان هناك محققات للاتفاق وضوابط فإن للاختلاف ضوابطه أيضاً.

واضطراب المفاهيم والمواقف حين يحكمها العقل وتسودها المعرفة فإنه من الممكن تصفية المشاهد من الشوائب، وتهيئة الفرقاء للقاء على كلمة سواء، واختلاف المتأولين يختلف عن صدام الرفض والاستبدال.

وكل مجتمع يتسع للحراك الثقافي وتحفل مشاهده بتعدد الخطابات لا بد أن يمر بأزمة ثقافية قد تؤدي في النهاية إلى الرشد على حد: (اشتدي تنفرجي)، وليس بمستبعد أن تؤدي إلى مزيد من التأزيم، وهذا ما لا يوده الناصحون لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

والذين يجندون أنفسهم لنقد الفكر والثقافة يحسون بضغط الأزمة، وقد يمتد النقد إلى العقل، كما فعل عدد من المفكرين، وعلى رأسهم (محمد الجابري)، ونقد العقل ينصب على قواعد الذهن، وآلية التفكير ومنطق البحث ومناهج التحليل والتحقيق، ولا يكشف عن الأزمة إلا نتاج الفكر المتداول، إذ هو الذي يعري المفاهيم والرؤى والرؤية، ويؤدي إلى تجلي المذاهب والأحزاب.

وإشكالية الثقافة أنها تتسع لكل الخطابات والتيارات، فمن طائفة خائفة تترقب، ومن ثم تأوي إلى موروثها كي يعصمها من الطوفان، وأخرى تنكب عن ذكر العواقب جانباً بحيث لا تني في تلقي الركبان والاحتفاء بكل طارئ لا تسأل عن هوية ولا تحرر مسألة ولا تؤصل لمعلومة، وداء المشاهد كلها أنها تعج بالطلقات الطائشة التي تسهم بإهدار الجهد والوقت والمال.

ومن تلك المنطلقات المتفاوتة تبدو الثقافة كما لو كانت مأزقاً بذاتها، وأخطر شيء تواجهه المشاهد قراءة الفكر الإسلامي بعيون وآليات ومناهج ليست منه في شيء، وهي قراءات خطيرة ومضللة، لأنها تجنح إلى المادية والأنسنة، ولقد انصاع لهذه القراءة عدد من المفكرين العرب الذين يتصدرون المشاهد، ويجوسون خلال أروقة الجامعات، نجد ذلك عند (علي حرب) و(برهان غليون) و (محمد أركون) وآخرين من دونهم اقتفوا أثرهم، واستنوا بسنتهم، وروجوا أفكارهم دون وعي بمنطوياتها، و (محمد أركون) يدرس ويدرس الفكر الإسلامي في أرقى الجامعات الفرنسية، وله رؤية فكرية استفز فيها مختلف المشاهد وجر أقلاماً وأقداماً، وكان حجر الزاوية في رؤيته حول الأنسنة، وله في ذلك عدد من الدراسات من أهمها: (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) و (معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية) وكلها من ترجمة (هاشم صالح) والإشكالية تمتد إلى تصريحاته ولقاءاته التي يتعمد فيها إجهاض الدلالة القطعية وأنسنة النص المقدس، كما أن مكمن الخطورة في كتابه (أين هو الفكر الإسلامي المعاصر) وهناك فرق بين تعطيل النص وتأويله، وفكر أركون تعطيلي. وإذ لا نغمط هذا الصنف من المفكرين اقتدارهم، وعمق ثقافتهم فإننا لا نسلم لهم ولا نلقي بأنفسنا معهم في التهلكة التي تردوا فيها، لقد خدمتهم الإمكانيات الذاتية والتسهيلات الغيرية، ومكنت لهم في كافة المشاهد بحيث أصبح صوتهم ندياً وخطابهم مهيمناً، وحين لا يكون هناك متسع مكاني ولا زماني لمن يختلف معهم يعلو صوتهم موهماً أنه القول الفصل الذي لا معقب له، مع أنه في بعض وجوهه أشبه بتسخين ما غبَّ من الطبيخ، فالمستشرقون لم يغادروا من متردم، والتهافت على آراء المستشرقين وتبنيها مؤذن باختفاء الذات ومسخها.

والخطاب الثقافي العربي حين لا يستقل وينبع من قعر الواقع ويستجيب لمتطلبات الأمة لا يكون جديراً بالاحتفاء ولا قادراً على البقاء، لأنه بضاعة ترد إلى أهلها، والمستشرقون هم الذين نفوا (الميتافيزيقا) ومن ثم لحق بهم (زكي نجيب محمود) فألف كتاب (خرافة الميتافيزيقا) وحين ضيق عليه الخناق خفف من غلوائه وسمى الكتاب (الموقف من الميتافيزيقا) وهم الذين أنكروا الوحي وأنسنوا كل شيء ومن ثم لحق بهم (محمد أركون) وهم الذين نفوا احتكار الحقيقة والنص البرهاني المقدس وعلى أثرهم تهافت عدد من المفكرين العرب يقولون ما قالت حذامِ.

وحين ننادي بمشروعية تحول الخطاب الثقافي نستشعر هذا التهافت المخل والمخجل، ولكن الواقع المزري لا يحول دون الحقائق، ولا يحملنا على إنكار الحتميات أو التخلي عن المسلمات.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد