Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/06/2008 G Issue 13041
الخميس 08 جمادىالآخرة 1429   العدد  13041
حافّة الصمت في بيداء الكلام
عبدالمؤمن القين

عند حافّة الصمت يَشدُه الكلام.. يظل الفوه مفتوحاً لمخاطبة الفراغ.. ولا تطبق الشفاه على بعضها البعض الآخر، فهناك أمر هالها وأفزعها.. إنه الوجد الضائع منها أبداً.. لملمه الليل ورحل به إلى البعيد البعيد، وهي لا تزال تنتظره لتلثمه وتقول له: إنني أحبك.. أحبك، وأنا مكتظة بك، مشرئبة إليك فلا تتركني وحدي أعاني الانشداه والتمزق والشفق من ظمأي إليك!

وتنثال من الصمت أصداء ضجيجه وأصداء ضجيج الحياة، كأنها وقع طبول في تيه مظلم غارق في سبات عميق.. ويحاول الكلام إسكات تلك الطبول لكن لا فائدة من محاولته، فهي ليست طبول حرب تستفز الهمم ولكنها طبول فراغات هائمة وعزائم خائرة.. أما الكلام فهو كنقيق الضفدع إذا ما قيس بزئير الأسد!! إنه ترجيع ضعيف لا يقطع مسافات الأثير وليس له أثر البتة في عالم يموج بالأبواق الكبيرة المشوشة عليه، ولا بد أن يذوب فيها ليحيى ويبقى لكن دون صفة أو تمييز.. وهذا الكلام يقول ولا يقول، فالصمت يبتلعه ويلقي به عند حافته، والويل له لو كانت تلك الحافة مسنونة مدببة، فلا بد أن تجرح معانيه وتشوهها!!

ولكن هل لا تزال للصمت خشية ليست للكلام؟ لقد أعلى الشاعر العربي مكانة وهيبة الصمت بقوله:

قالوا سكت وقد خوصمت

فقلت إن الكلام لباب الشر مفتاح

ألا ترى الأُسد تُخشى وهي

ساكنة والكلب يُخسى - لعمري - وهو نباح؟

إن المعنى مباشر في البيتين السابقين، لا يحمل بعداً جديداً في التحليق والإبداع سوى الخشية من الأسود والخسّة لكلاب وتطبيق ذلك على دنيا الإنسان الذي لم يعد لصمته خشية وهيبة فقد أنهكته خطاياه.. لذا فإن الطامة الكبرى أن الأمر انعكس في عصرنا الحاضر فلا خشية من الصمت والوقار ولا خسة لنباح الكلاب، بل وقار لها واحترام وتقدير، فيا لبعد الشقة بين زماننا وزمان الشاعر!!

إن انطلاق الفضائيات ملأ بيداء الكلام بما هو دافع مفيد وبما هو غوغائي غير مفيد.. يصدر المتحدثون في هذه الفضائيات من نوازع مختلفة لتحقيق أهداف مختلفة من شأنها التفريق لا الاتحاد ولم الشمل.. الكل يتحدث بما يعرف ولا يعرف، ويغرف مما لا يهرف.. حقوق المرأة وحقوق الإنسان في مقدمة الحوارات الدائرة على شاشات الفضائيات وكذلك تضليل الشباب، واتباع طرق مختلفة للحوار لفت عضد الأمة وليس لمؤازرته.. إلخ. ومن المستفيد في النهاية؟ هو من يعمل على تأليب الرؤى والأفكار ضد بعضها البعض الآخر، وهو من يزرع العداوة والبغضاء بين الأمة الواحدة والشعب الواحد طبقاً لسياسة (فرق تسد).. إنه يعاني من مشكلات لم تستطع الديمقراطية إيجاد حلول لها في بلدانه، فجاء إلى بلداننا ليجد أرضاً - ربما - خصبة لفرض ديمقراطيته على منهجية الإسلام التي يسلم بها عقلاؤه وحكماؤه لا سياسيوه وأصحاب المصالح المتعطشون للقوة والبطش والجبروت.

إن الصمت الطويل واجب أمام هدر الحدث في مرحلة من أهم مراحل الأمة العربية والإسلامية، التي تأبى إلا أن يكون صمتها قوة لا خوفاً من أحد.. فعلى سبيل المثال يسعى الجادون إلى الحفاظ على هوية هذه الأمة ولذلك ازداد عدد الناطقين باللغة العربية في السنوات الأخيرة في شرق وجنوب شرق آسيا، ولم يستطع أعداء هذه اللغة في الخارج والداخل النيل منها سواء بفرض العامية أو إخضاع التعليم بلغات أخرى بهدف القضاء تماماً على اللغة العربية لتنقرض كبقية اللغات المنقرضة، التي انقرضت حينما انقرض المتحدثون بها نتيجة الإبادة الاستعمارية في بيئات عدة في العالم.. وما درى هؤلاء أن ألفاظ القرآن الكريم العربية هي مخزون تجد فيه الإنسانية حلاً وحلولاً لما قد يَشكل عليها في مسائل العلم والاجتماع والسياسة، كما يذهب مصطفى صادق الرافعي في كتابه (إعجاز القرآن) وهذه الخاصية لا تتوفر في أي لغة من اللغات، والمجال لا يسمح بضرب أمثلة على ذلك، إنما يجب التأكيد على أن البشرية جمعاء يمكن لها الاستفادة من القرآن الكريم لأنه دعوة عالمية لا يمكن للعولمة الوقوف أمامه.

إن ديمقراطية الغرب عجزت عن الإجابة على أسئلة مهمة تتعلق بإيجاد حلول للتحلل الجنسي والانتحار والإلحاد، فأطلقت العنان للغرائز وبلغ الانتحار نسبة عالية في الغرب وأخرج الإلحاد الغرب عن منهج السماء، أما الإسلام بمنهجه الوسط فقد أوجد الحلول لهذه المعضلات، فوجه القرآن الكريم الناس في قضية التحلل الجنسي بقوله تعالى: { بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(86) } سورة هود، وعالج قضية الانتحار بقوله سبحانه: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } سورة الزمر، أما قضية الإلحاد فقد قال عز وجل بشأنها: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) } سورة آل عمران.

وأخيراً لا ينبغي لنزعة الاستعلاء أن تكون تعبيراً للصمت أو الكلام، ولكن الحكمة هي الفيصل بينهما، فتكون المروءة عنوانا للصمت وتكون الشجاعة الأدبية مقياساً للكلام، وبذلك تتوازن الأمور؛ فلا يبتلع الصمت الكلام ولا يسقط الكلام عند حافة الصمت ويضيع في قيعانه.. ليسكت من حاول ويحاول الحديث، وليتكلم من له تأثير في الناس ليستمعوا إليه أو يقرأونه فيستفيدون من علمه وثقافته، ولا ينبغي للمتكلمين أن يكون هدفهم هو الغلبة مثل نزعة البيوقسطانيين، بل ينبغي أن يكون هدفهم معرفة الحقيقة والكشف عنها. وقد عرض الدكتور مصطفى ناصيف في كتابه (حوار مع النثر العربي) هذه القضية في تنظير أبي عثمان بن عمر بن بحر الجاحظ لفكر المعتزلة بأنه فكر كان يهدف إلى الاستيلاء على السلطة والسياسة ولم يكن يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة في القضية التي يتصدى لها، وعلى الرغم من أن الجاحظ نفسه معتزل، لكن يمكن القول إن ضميره صحا ليسجل لنا هذا التنظير الرائع ويضرب مثلاً مجازياً هو رقى عالم الحيوان الذي تبلغ فيه الحرب النفسية مبلغها لكنها لا تنتهي بالافتراس والفتك خاصة إذا كانت بين حيوانين من نوع واحد كأسدين يتصارعان على حب لبؤة واحدة، فلا بد أن يتنازل أحدهما للآخر عنها.

وهذا الصراع بين الأسدين حدا بالجاحظ إلى الشعور بالجذل والمتعة والحبور في مشاهدة عالم الطبيعة الذي لا تحكمه السياسة وتولي المناصب، بل تسيطر عليه روح العفوية حتى حينما يفترس حيوان حيواناً آخر، كجري النمر خلف الغزال البريء الجميل الذي يحبه كل الناس.. وأخيراً يقول الله عز وجل: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } (22) سورة محمد، أي توليتم أمور الناس وإدارة شؤونهم، وما توفيقي إلا بالله.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد