Al Jazirah NewsPaper Monday  16/06/2008 G Issue 13045
الأثنين 12 جمادىالآخرة 1429   العدد  13045

ريادة علمائنا في تحريم التدخين
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

المراد بعلمائنا، هنا، علماء الشريعة في هذا الوطن العزيز، الذين كان في طليعتهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمه الله. والواقع أن من علماء الشريعة الذين عاشوا قبل ذلك الشيخ الجليل من حرّموا تدخين التبغ. لكن ....

....أتباعه هم الذين اشتهروا على نطاق واسع في ذلك التحريم. على أن مسألة تدخين التبغ لم تكن من المسائل ذات الأولوية فكرياً في دعوته. بل إن كاتب هذه السطور لم يمرّ به أنه ناقشها في أي كتاب ألّفه أو رسالة دوّنها. كان لبّ تلك الدعوة وجوهرها قضيّة توحيد الله في عبادته، وإيضاح مقتضى ذلك التوحيد، وتبيان ما يناقضه، أو ما قد يؤثّر في صفائه، من أمور شركية أو بدعية.

ولم تكن المنطقة التي ظهر فيها الشيخ محمد - عندما ظهر في القرن الثاني عشر الهجري الثامن الميلادي- خالية من شوائب الشرك والبدع، وإن كانت -كما ثبتته الدراسات الجادة- أقل سوءاً، في هذا المجال، من أكثر المناطق العربية والإسلامية. بل إن بعض هذه المناطق -إن لم يكن أكثرها- ما تزال توجد فيها أشياء واضحة من تلك الشوائب. منها ما تبرزه الكتب التي تكتب، ومنها ما يمارس عياناً بياناً. وكان ممن أشاروا إلى ذلك الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- في كتابه (عقيدة المسلم)، إذ قال: (إن هناك مسالك شائعة بين الجماهير الغفيرة من المسلمين، لها دلالاتها الخطرة على فساد التفكير وضلال الاتجاه واضطراب المقصد). ثم أوضح موقف بريطانيا، التي كانت تهيمن على مصر حينذاك، مما كان يجري بقوله: (لقد اهتمت حكومة إنجلترا -في سبيل مكافحة الشيوعية- بالحالة الدينية في مصر. فكان مما طمأنها على إيمان المصريين أن ثلاثة ملايين مسلم زاروا ضريح أحمد البدوي بطنطا في عام واحد.. وحسبك من معرفة حالهم أنهم جاؤوا الضريح المذكور للوفاء بالنذور والابتهال والدعاء. ولمن النذور؟ ولمن الدعاء؟ إنه أول الأمر للسيد.. إن الواحد منهم تراه مجدّا في الذهاب إلى قبر من قبور الصالحين، لا ليدعو له، أو يرجو من الله أن يرحم ساكن هذا القبر، بل ليسأل صاحب القبر من حاجات الدنيا ما هو مضطر إليه.

وبعد ذلك ذكر الشيخ الغزالي ما هو موجود في الكتب الإسلامية الموثوقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأمره أن يسوّي بالأرض كل قبر وأن يهدم كل صنم. فجعل الأضرحة العالية والأصنام المنصوبة سواء في الضلالة.

وبالعودة إلى مسألة التدخين، التي هي المستهدف الرئيسي في هذه المقالة، يجد القارئ لكتب الرحالة الغربيين أن منها ما ركّز على ذكر تحريم أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب للتدخين، ومنهم من ذكر أن الناس في نجد لا يسمحون للمدخن أن يكون إماماً في مسجد، بل ولا يكون مؤذناً للصلاة. ولقد اختلفت مواقف من ابتلوا بعادة التدخين من أمراء البلدان وزعماء البادية. فمنهم من أشادوا به في أشعارهم، ورأوا فيه تنفيساً لهمومهم، وتركيزاً لأفكارهم. ومنهم، وبخاصة أمراء الحاضرة، من كانوا يجتنبون التدخين أمام الملأ، فلا يدخّنون إلا سرا. وإذا كان بعض الشعراء من عامة الناس قد تباهوا بالتدخين أمام منافسيهم فإن منهم من قال رداً على من تباهى:

ما شربته بالشباب أشربه وقت المشيب

يا الله انك تأخذ الروح ما فرّيتها

ولقد وجد من نساء البادية في شمال الجزيرة العربية من ابتلين بالتدخين، لكن نساء الحاضرة في نجد -على العموم- كنّ ضده، وكان مما سمعه كاتب هذه السطور من اللواتي كن يطحنّ القمح عندما كان طفلاً يتمتع بالاستماع إلى غنائهن على الرحى:

لا تشرب التتن يا المملوح

خرّب ثناياك يا الغالي

على أن التغيير الاجتماعي من النتائج الحتمية في مسيرة الجماعات. فأصبح نتيجة للاختلاط بفئات متعددة من المملكة ومن خارجها - نساء من حاضرة نجد يدخن مثلهن مثل غيرهن من النساء الأخريات.

ومن المعلوم أن التدخين آفة كبيرة ابتلي بها الكثيرون، وعادة سيئة مارسوها على حساب صحتهم ومالهم. وإذا كان للشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- وأتباع دعوته من العلماء فضل كبير في إيضاح عقيدة التوحيد الصحيحة فقد كان لهؤلاء الأتباع ريادة في اتخاذ موقف رافض لتدخين التبغ، بانين ذلك الموقف على أساس أنه إتلاف للمال، الذي استخلف الله عليه الإنسان، بدون مسوغ، وإضرار بالصحة التي نهى الله عن الإضرار بها.

ولقد انتبه العالم إلى أضرار التدخين صحياً ومالياً، وسنت أنظمة في كثير من الدول للحد من تعاطيه وانتشار عادته، وشفعت تلك الأنظمة بإجراءات فعالة لتطبيقها. ومع أن تلك الأنظمة والإجراءات أتت متأخرة نوعاً ما فإنها مقدرة على أي حال. وقد وفقت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الطب باختيارها (أخطار التبغ على صحة الإنسان) موضوعاً للجائزة قبل ثلاث سنوات. وفاز بها عالمان رائدان في هذا الميدان، هما السير ريتشارد دول، الذي كان عمره عند نيله الجائزة ثلاثة وتسعين عاماً، والذي قدرته منظمة الصحة العالمية والمؤسسات العلمية ذات العلاقة حق قدره، وتلميذه البروفيسور ريتشارد بيتو. ولعل في سيرة الأول منهما -وهو السير دول- ما هو جدير بالذكر هنا. كان يدخن بشراهة حتى اكتشف قبل أكثر من نصف قرن علاقة التدخين بسرطان الرئة، فأقلع عن التدخين، ودعا الآخرين ليحذوا حذوه. لكن كثيراً منهم لم يصدقوا نتائج دراسته، بل إن بعضهم شكك فيها. وكان في طليعة أولئك المشككين -بطبيعة الحال- مالكو شركات التبغ. على أن ردة فعله على ذلك التشكيك كانت من أعجب ما عرفه تاريخ الطب والبحث العلمي. ذلك أنه قام بمتابعة أكثر من 34000 طبيب بريطاني من المدخنين. ولم تكن متابعته لهم عاماً أو عامين أو عشرة أعوام، بل استمرت خمسين عاماً دون توقف.

ومما وجده العالم دول وتلميذه العالم بيتو أن الوفيات بسبب التدخين في متوسط العمر وفي الأعمار المتقدمة توازي ضعف عدد الوفيات الناتجة عن كل الأسباب الأخرى في غير المدخنين، وأن متوسط العمر المتوقع للمدخنين يقل بأكثر من عشرين سنة مقارنة بمتوسط العمر المتوقع لغيرهم، وأن تأثير التدخين لا يقتصر على علاقته الوثيقة بسرطان الرئة وأمراض القلب والأوعية الدموية، بل هو - أيضاً - سبب مباشر أو تمهيدي لأكثر من أربعين مرضاً، ووجدا أن الإقلاع عن التدخين في أي مرحلة عمرية يقلل بصورة دراماتيكية من أخطاره، وأن الوقت ليست متأخراً أبداً للإقلاع عن تلك الآفة وكلما كان الإقلاع عنها مبكراً قلت الأخطار أكثر فأكثر.

وبمناسبة اليوم العالمي للتبصير بمضار التدخين قامت الجهات المختصة في وطننا العزيز ممثلة في وزارة الصحة وجمعية مكافحة التدخين، بالتعاون مع كل مؤسسة خيرية، بحملة توعية تحذيرية مشكورة. وكانت الحكومة أيضاً قد أصدرت أوامر في الماضي تمنع التدخين في المؤسسات الرسمية. وكل ما يرجوه المخلصون لأمتهم أن تطبق تلك الأوامر بحزم، وأن تكون التوعية مستمرة.

أعان الله الجميع على اتخاذ القرارات الصائبة، وحماهم من كل الآفات والمكاره.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد