Al Jazirah NewsPaper Friday  20/06/2008 G Issue 13049
الجمعة 16 جمادىالآخرة 1429   العدد  13049

نوازع
الخليفة الحكم المستنصر
محمد بن عبد الرحمن البشر

 

سأُعرِّف القارئ الكريم بشيء عن أحد حكام الأندلس الأموية.

وهو: الحكم أمه أم ولد اسمها مرجان، وهي المرأة التي نالت ما لم ينله غيرها من زوجات الملوك للقصة المشهورة عنها مع ضرتها القرشية.

تولى الحكم بعد أبيه وعمره ثمانية وأربعون عاماً، وقد ولاه والده العهد منذ أن كان عمره ثماني سنوات، ولم يتزوج مدة حكم أبيه، ويقال إن والده كان يغار عليه ويأبى أن يشاركه فيه أحد، وهو من خيرة حكام بني أمية علماً وعدلاً وخلقاً.

وكان يقضي مظالم الناس، ويردع الولاة عن ظلمهم، ويتحرى العدل بسريرة صافية نقية، وقال صاحب الجذوة: إنه قد رام قطع الخمر من الأندلس وأمر بإراقتها وتشدد في ذلك وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع البلاد، فقيل له أنهم يعملونها من التين وغيره فتوقف عن ذلك، ولقد قال أحد الشعراء وهو يوسف بن هارون الكندي قصيدته المشهورة متوجعاً فيها لشاربها، وفي القصيدة يذكّر الشاعر الحكم المستنصر بقصة أبي حنيفة مع جاره اليهودي الذي كان يشرب الخمر ليله كله وأبو حنيفة قوَّام في الليل يعبد الله الباري ويتضرع إليه مصلياً وداعياً وقارئاً للقرآن، وكان اليهودي إذا أخذت الخمر منه كل مأخذ تمثل بقول الشاعر العرجي:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

وعندما قام الإمام أبو حنيفة كعادته آخر الليل للعبادة والصلاة، لم يسمع صوت جاره الذي اعتاد سماع صوته، وسأل من عنده: ما فعل جارنا هذا الذي يغني في كل ليلة؟ أهو مريض أو غائب؟ فقالوا: إنه مسجون، فقال: ومن سجنه؟ فقالوا: خرج في الليل لبعض حاجته فلقيه أصحاب عيسى بن موسى صاحب الشرطة فأتوا به، فأمر بسجنه.

فلما أصبح أبو حنيفة لبس ثيابه، وركب دابته، وقصد عيسى بن موسى في بيته، فلمَّا أُعلِمَ عيسى بن موسى بمكان أبي حنيفة خرج يتلقاه مسرعاً، وبالغ في تكريمه وبره وسأله عن حاجته، فقال له: لي في سجنك جار اسمه عمرو، فقال عيسى بن موسى: يطلق كل من كان اسمه عمرو في سجني من أجل جار الفقيه، فأطلق وخلقاً كثيراً معه، فأتى الرجل أبا حنيفة يشكر له، فلما وقعت عينه عليه، قال له: أضعناك؟ قال الرجل: والله بل حفظت الجوار، حفظك الله.

وقد أنشأ الحكم المكتبة الأموية الكبرى، وقد جهد ملوك الدول الأخرى إهداؤه نفائس الكتب. ويقول ابن حيان: (إنه لم يسمع في الإسلام بخليفة بلغ مبلغ الحكم في اقتناء الكتب والدواوين، وإيثارها والتهمّم بها. أفاد على العلم، ونوه بأهله، رغب الناس في طلبه، ووصلت عطاياه وصلاته إلى الأمصار النائية).

وقد بعث إلى أبي الفرج الأصفهاني للحصول على نسخة من كتاب الأغاني، وأعطاه ألف دينار من الذهب العين، كما أرسل أبو الفرج كتاباً عن أبي أمية ونسبهم فوصله بصلة جزيلة. كما أنه فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري ما فعله مع الأصفهاني إذ بعث إليه بمبلغ كبير لقاء حصوله على نسخة من شرحه لمختصر أبي الحكم.

وكان له وراقون بأقطار البلاد ينتخبون له غرائب التواليف، ومع هذا فهو لا يجمع الكتب فحسب، بل يقرأ كل ما يقع تحت يده منها، وقلمَّا تجد كتاباً في خزانته لم يطلع عليه، وقرَّب إليه كبار العلماء ومنهم اللغوي المشهور - علي القالي - صاحب كتاب (الأمالي) وقد ألفه بأمره وتحت كنفه وأهداه إليه. كما أهدى إليه أبو عبدالله الخشني بعض كتبه ومنها كتاب (القضاة) وأهدى إليه مطرف الغساني كتاب (أخبار كورة البيرة).

وكان الحكم المستنصر يقضي معظم وقته في مدينة الزهراء يستمتع بمباهجها وظلالها الوارفة، مُعتكفاً على قراءة الكتب برفقة أحد خلاصه وهو محمد بن يوسف الحجاري الذي ألف له كتاب (تاريخ الأندلس والمغرب) وقد سار كثير من وجهاء الأندلس وأهلها سيرة أميرهم فتنافسوا في اقتناء الكتب لتصبح ظاهرة ذلك العصر الزاهر. وقد سايره النصارى واليهود والمسلمون في ذلك فكانت لهم مكتبات زاخرة بنفائس الكتب، وكان أشهر هؤلاء الطبيب اليهودي - بن حسداي - طبيب الحكم الخاص، وبطلب منه قام بتأليف بعض كتب يهود قرطبة باللغة العربية.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد