Al Jazirah NewsPaper Sunday  22/06/2008 G Issue 13051
الأحد 18 جمادىالآخرة 1429   العدد  13051
النفط.. حقل الأسئلة!
فهد العجلان

إذا كانت حقول النفط مليئة بالمادة الخام التي تحرك عجلة الاقتصاد العالمي فهي اليوم أكثر امتلاء بالاسئلة.. الأسئلة التي ترد اليوم على كل لسان في أصقاع العالم: ما الذي يحدث لبرميل النفط؟ وكيف نستخرج الأجوبة من باطن حقول الاسئلة؟ كيف نفسر ارتفاع الأسعار المتواصل والتي لم يشهدها التاريخ من قبل؟ ما هي الأسباب الحقيقية التي دفعت الأسعار لهذه المستويات؟

ثمة أكثر من تفسير وبريق الأسباب يغري أطرافا كثيرة باختيار ما يعجبها فالتقليديون المغروسون في تاريخ النفط ما يزالون غارقين في غياهب الصدمة ذلك المصطلح المتداول والشائع في أدبيات النفط والذي ترعرع في الوعي الغربي ابتداء من السبعينات الميلادية.. هذا المصطلح كان يرتبط بصدمة العرض من النفط كما يصفونها والذي انكمش حينها بدرجة كبيرة في تلك الفترة الأمر الذي دفع محللي جانب العرض إذا جاز لنا التعبير إلى قراءة أي ارتفاع في أسعار النفط باعتبار نتيجة طبيعية لنقص المعروض.. الأمر الذي يدفعهم لاصدار التقارير التي تطالب الدول المنتجة بتقديم الحلول والجلوس في مقاعد المتفرج على الأزمة!.

الاقتصاديون من جانبهم يحاولون ان يكونوا أكثر حيادية فيلجؤون إلى سلاحهم التقليدي وهو الطريق الاسهل في تفسير حركة السعر سواء ارتفاعاً أو انخفاضاً باللجوء إلى الأسباب الأساسية أو ما يطلق عليه في التحليل Fundamentals.

ولاشك أنهم سيجدون في التحليل الأساسي جزءاً من تفسير الصورة وخصوصاً فيما يتعلق بزيادة وقود عربة الاقتصاديين الآسيويين الدائمي التوسع وهما الصين والهند.

لكن حقول الأسئلة ستبقى متدفقة وسيغلق باباً واسعاً منها ما يقدمه محللو الأسواق النفطية من تفسيرات تحيل مايحدث في الأسواق من ارتفاعات قياسية إلى القلق على حال الإمدادات وقدرة العرض على مواكبة التوسع في الطلب وهو القلق الذي يغذي المضاربات في نظرهم باعتبار أن إمدادات النفط تقع في مجملها في مناطق غير مستقرة فتشتعل جذوة هذا القلق حين يهاجم عمال النفط في نيجيريا أو ينفجر أنبوب في العراق أو تزداد حدة الجدل السياسي حول ضربة عسكرية محتملة ضد إيران الأمر الذي يجعل الأمن أو بمعنى اصح القلق من فقدانه لاعبا أساسيا في ارتفاع الأسعار.

الإبحار في ما يقدم من تفسيرات قد يشتت التركيز عن الأسباب الحقيقية ما دفع الكثير من محللي الأسواق النفطية إلى التأكيد على أن التفسيرات لا تعكس تأثير العوامل الأساسية بقدر ما هو تفسير كل محلل لهذه العوامل.

ارتفاع الأسعار الحالي أعاد إلى مسرح التحليل وبقوة (فزاعة) أوبك والتي يحملها الغرب مسؤولية عدم وجود حرية في السوق النفطية بوصفها منظمة احتكارية متناسين دور هذه المنظمة في ضمان استقرار السوق النفطية ومحاولاتها الدؤوبة للتوفيق بين مصالح أعضائها ومصالح الدول المستهلكة، والواقع أن أصحاب هذه الدعوى يتجاهلون حقيقة الاستثمارات الضخمة التي تصبها المؤسسات المالية الغربية الكبرى في سوق النفط بذات الأسلوب التي تتعاطى معه الاستثمار في الأسهم أو العملات فهي تشتري العقود الضخمة للنفط على أمل ارتفاع أسعارها قبل بيعهم لها والعكس يحدث حين يراهنون على التشاؤم بحال الأسعار.

هذه السياسة الاستثمارية الأنانية التي تجاهلت مصالح الاقتصاد العالمي الذي يقوم على هذه السلعة الإستراتيجية غطت على استمرارها جوقة المحللين الذين يصرون على عدم رؤية الجانب الآخر من الصورة في محاولة للتنصل من ما تشهده السوق حالياً بعد ان لامس سعر برميل النفط أرقاما قياسية لم يتوقع احد أن تبلغها حين تجاوز سعر البرميل حاجز 135 دولارا متضاعفا في اقل من عام، البحث العميق في أسباب ارتفاع الأسعار بهذا الانطلاق الصاروخي أرجعه عدد من المحللين لجميع الأسباب التي ذكرت آنفا دون مراعاة مدى اتفاقها مع الواقع من عدمه فجعلوا مسؤولية أوبك المنظمة كمسؤولية المضاربين وتوقعاتهم التشاؤمية كما حملوا التشريعات النفطية والاختلافات السياسية بعض المسؤولية ونال أنصار البيئة نصيبهم من اللوم ودكتاتوريات فنزويلا - إشارة للرئيس هوغو شافيز وتأثيره السياسي في أمريكا اللاتينية وما تزال دائرة الأسباب تتسع يوماً بعد يوم.

حمى اللوم الذي أفرزته تقلبات السوق طال أيضاً الشركات النفطية كما يقول الغرب بسبب استمرارها في جعله مدمناً للنفط ويبلغ اللوم ذروته على التشريعات التي يجزمون بأنها أخفقت في إيقاف زحف الارتفاع غير المبرر، كما يصفونه رغم أنهم يتجاهلون أن حقيقة الأرقام الحالية لسعر برميل النفط يتدثر في دثارها الدولار الهزيل والتضخم الذي يختلف حتماً عن مستوى السبعينات.

إن كان ثمة ما يمكن قراءته في الواقع اليوم فهو تغذية الارتفاع في أسعار النفط للتيار الذي ينادي بمقولة أمن الطاقة وتأمين الإمدادات في أمريكا والعالم الغربي والدفع باتجاه تطوير البدائل والخيارات بشكل أكبر واجتذاب الكثير من المواطنين في الغرب إلى ساحته لدعم السياسيين في المضي في تحقيقه فارتفاع الأسعار لا يمكن إدراك انعكاساته السلبية على المجتمع الأمريكي سوى بالأرقام والتي تقول مثلا ان قطاعي الأفراد والأعمال في مدينة ميرلاند الأمريكية وحدها قد دفع في بداية العام الحالي على الوقود مبلغا يزيد بقيمة 500 مليون دولار عما دفعه في بداية عام 2001م!.

والسؤال الأكثر أهمية في حقل الأسئلة والذي مايزال طليقاً على ألسنة العالم أجمع وخصوصا المواطنين العاديين في الشرق والغرب والشمال والجنوب ما السبب الحقيقي خلف ارتفاع الأسعار؟.

وقد أجاب عليه رجل يدعى مايكل ماستيرز وهو احد مدراء صناديق التحوط المهمين في الولايات المتحدة الأمريكية حين قال: رغم التأكيدات داخل صناعة النفط أن الانطلاقات السريعة للأسعار بسبب نقص العرض لكن المتهم الحقيقي وراء استمرار ارتفاعها هم المضاربون الذين أضحوا منافسا حقيقيا للصين في الطلب على النفط مؤكدا أن هذه الحقيقة قد تمثل صدمة للكثيرين ممن يعتقدون أن الطلب المتزايد في آسيا وخصوصا من الصين هو من يدفع الأسعار للارتفاع وقال في شهادة يسجلها التاريخ: ان المؤسسات الاستثمارية كصناديق التحوط والصناديق السيادية تصب مليارات الدولارات ليس فقط في النفط، بل في أسواق كثير من السلع الأمر الذي يرفع الأسعار إلى مستويات لم يسبق لها مثيل ويشوه الأسواق وهي مشاركة من فئات جديدة في الأسواق المستقبلية للسلع!.

هذا الرأي ولاشك يخالف آراء المحللين الذي يضعون الصين في مواجهة العالم وكأنها المتسبب في أزمة السوق من خلال الطلب المتزايد وسرعة تروس النمو الاقتصادي الصيني الهادرة ولم يكتف مايكل ماستيرز بما قال مضيفاً: إذا كان ما ذكرته جزءا من الحكاية فإن البيانات الأمريكية تكشف الجزء الآخر ففي حين أن البيانات الأمريكية تكشف أن الطلب الصيني من النفط قد زاد خلال الخمس سنوات الماضية 920 مليون برميل فان طلب المضاربين على النفط قد زاد أيضا 848 مليون برميل خلال ذات الفترة ما يعني أن الطلب الصيني على النفط وطلب المضاربين متساوي النمو وقد برأ مايكل في شهادته أمام لجنة أمريكية في الكونجرس ساحة عرض النفط مؤكدا أن المشكلة في الزيادة الهائلة للطلب!

وقال إن المؤسسات المالية اتجهت إلى الاستثمار في السلع في السنوات الخمس الماضية كطريقة لحماية نفسها من التذبذب التي تشهده أسعار الفائدة والأسواق المالية ولم يتوقف الأمر على النفط بل امتد ليشمل الكثير من المعادن في سياسة استثمارية حرفت رؤوس الأموال لتخلق فقاعات أسعار ضخمة!

وأكد مايكل ماستيرز أن استثمار المؤسسات الاستثمارية في مؤشرات السلع قد ارتفع إلى 260 بليون دولار في نهاية مارس الماضي بينما لم يكن يتجاوز 13 بليون دولار في نهاية 2003! في صورة تفسر كثيرا ما يحدث في السوق حالياً!

العارفون بأحوال السوق يؤكدون أن التحكم بالأسعار لم يعد بيد منظمة أوبك وإنما بيد صناع البورصات فأسعار النفط اليوم تحركها الشركات المالية الانجلو أمريكية الأربع وهي، viz., Goldman Sachs, Citigroup, J P Morgan Chase, Morgan Stanley

وهؤلاء في الواقع لا يشترون نفطا حقيقيا بل يشترون نفطا في المستقبل ويبيعونه قبل أن يجف حبر عقود الشراء مما يرفع الأسعار على الورق ويضاعفها وكلما كان السعر عاليا أصبح أكثر اغراء لشرائه بسعر أعلى على أمل أن يرتفع أكثر وأكثر في المستقبل!.

مشاركة المضاربين في ارتفاع أسعار النفط لاتوجد لها أرقام دقيقة يمكن أن نحددها لكن احد التقارير التي أصدرتها لجنة متخصصة في دراسات النفط أشارت إلى أن مشاركة المضاربين في العقود المستقبلية للنفط قد تكون رفعت الأسعار بـ100 دولار للبرميل من سعره الكلي الحالي!.

هذا الواقع من الزخم المضاربي في سوق النفط رصده أكثر من مراقب للتوجهات الاستثمارية لصناديق التحوط والصناديق السيادية للكشف عن علاقة عكسية بين النفط والدولار فكلما ارتفع سقف توقعات المضاربين حول انخفاض سعر الدولار توجهوا لشراء النفط بدلا عنه والعكس صحيح.

وبغض النظر عن السبب وراء ارتفاع الأسعار فإن المسؤولية التاريخية على المنتجين والمستهلكين والمنظمات العالمية المتصلة بالشأن النفطي مطالبة اليوم بالتصدي لهذا الواقع والمكاشفة من اجل تجنيب الاقتصاد العالمي آثاراً اقتصادية طويلة الأمد قد لا تتضح آثارها الحقيقية إلا بعد زمن.

والمملكة العربية السعودية كأكبر مصدر للنفط في العالم وأحد أكبر منتجي هذه السلعة الإستراتيجية لم يسعها أن تقف مكتوفة الأيدي في بحر أزمة يتقاذف فيها جميع الأطراف المسؤوليات دون أفق واضح للحلول ما حدا بخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يحفظه الله إلى إطلاق صوت العقل والحكمة والدعوة لاجتماع تاريخي ستشهد عليه أجيال العالم ويسجله التاريخ في صفحاته يجلس فيه المنتجون والمستهلكون وجميع الجهات التي يهمها استقرار سوق هذه السلعة الإستراتيجية لوضع خارطة طريق تحدد الاتجاهات الصحيحة التي تضمن مصلحة العالم.

قد يكون من البديهي أن تدعو لاجتماع كهذا دول مستهلكة تتضرر من ارتفاع الأسعار أو حتى منظمات عالمية كالأمم المتحدة تعنى بالشأن العالمي لكن أن تأتي الدعوة من دولة منتجة كبرى فهو إثبات ليس بالجديد على أن المملكة وطن المسؤولية والأفق الأرحب لاستيعاب مصالح العالم أجمع والصوت الأكثر موثوقية للم الشمل العالمي في وقت الأزمات!.

مدير التحرير للشؤون الاقتصادية


eco-manager@al-jazirah.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 959 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد