Al Jazirah NewsPaper Monday  23/06/2008 G Issue 13052
الأثنين 19 جمادىالآخرة 1429   العدد  13052
مؤسسات المجتمع المدني والقبيلة
د. عبدالرحمن الحبيب

كثر في الآونة الأخيرة خاصة في الفضائيات والصحف السعودية شكوى البعض من عودة الروح الفئوية للمؤسسات القديمة (القبلية، الطائفية، المناطقية)، وانتقادهم الحاد لهذه الروح التي تطرح عبر الإنترنت والفضائيات وبعض النشاطات الثقافية..

وتخوفهم هو من خطورة إثارة النعرات الفئوية داخل الوطن الواحد.

وفي اعتقادي أن هذا التخوف مبالغ فيه إذا لم نميز بين هويات جزئية سلبية تفرق بين أبناء الوطن الواحد وبين هويات جزئية إيجابية تنطوي تحت لواء الوطن باعتباره مظلة للجميع وهوية واحدة موحدة لهم.. فوجود الهويات الجزئية هي مسألة تنوع طبيعي في كل الدول والمجتمعات، بل إنه تنوع صحي يثري الكيان الوطني الشامل إذا تم التمييز بين السلبي والإيجابي في هذا التنوع.

فمن الطبيعي على سبيل المثال أن يفتخر إنسان بمنطقته أو بلدته أو قبيلته.. إلخ، ومن الطبيعي في كل هوية جزئية أن نجد نوعية خاصة بكل فئة باعتبار أنها خصائص مثرية للانتماء الكلي للوطن وليست انتماءً فئوياً على حساب الوطن.. نجد ذلك في الخصائص المميزة للأنواع الأدبية والفنية والفلكلور والتراث المحلي والملبس والمأكل والطراز السكني.. إلخ، بل ونحافظ على هذا التنوع الغني كما يحدث في مهرجان الجنادرية وما شابهه.

ومشابه لذلك التنوع التراثي نجد تنوعاً حديثاً في المؤسسات المدنية التي تُعنى بفئات معينة أو ينتمي لها فئات اجتماعية معينة كالجمعيات الأهلية، والهيئات المهنية كهيئة الصحفيين واللجان العمالية، والاقتصادية كالغرف التجارية، والثقافية كالأندية الأدبية والجمعيات العلمية، والشبابية كالأندية الرياضية..إلخ.

إضافة إلى ما ننتظره من نشوء العديد من مؤسسات المجتمع المدني التي بدأت تظهر في الآونة الأخيرة مثل هيئة حقوق الإنسان واللجان التي تتشكل حالياً في كل منطقة بالمملكة تحت مسمى لجنة الحماية الاجتماعية.. إلخ.

إلا أن التخوف الذي قللتُ من حجمه في البداية ليس خالياً من المبررات، فله الكثير من المسوغات أهمها ما نشهده في الإنترنت والفضائيات من زيادة درجة الاهتمام بالفئوي (خاصة القبلي) على حساب الوطني. وذلك يستدعي معرفة الأسباب التي أدت لذلك.

فهناك جملة من الأسباب والعوامل يطرحها البعض مثل أن الصمت والحظر السابق على التعبير الفئوي لا يمكن الاستمرار به في أجواء ثورة الاتصلات خاصة الإنترنت والفضائيات.. والإعلام هنا هو المتهم الأول!.

ويبرئ البعض الإعلام من تلك التهمة.. فالإعلام مجرد ناقل للحالة، وربما يكون نقله سلبياً في ظل أوضاع استقطابات متوترة تعيشها المنطقة العربية وما حولها، إنما الانتماءات الضيقة موجودة منذ قرون، وما دور وسائل الاتصال الحديثة إلا إظهارها للعلن فقط.. أما تعزيزها في العالم العربي فهو نتيجة مجموعة من العوامل كضعف مؤسسات المجتمع المدني وفشل مشاريع التنمية والاضطرابات السياسية التي أدت إلى حدة الاستقطابات الطائفية والقبلية في العالم العربي.. وما يهمنا هنا هو ضعف مؤسسات المجتمع المدني.

ففي السعودية يمكن تقسيم الواقع الحالي لمؤسسات المجتمع المدني على ثلاثة مستويات: الأول هو مستوى الرؤية والتوجه الإيجابي للقيادة والنخب والدعوات الإصلاحية لتشجيع إنشاء مؤسسات المجتمع المدني؛ الثاني مستوى التشريع، فالتشريعات الجديدة بصدد الظهور قريباً من مجلس الوزراء بعد إقراراها من مجلس الشورى وهو نظام واعد وفعَّال عموماً رغم ثغرات في مرونة تأسيس الجمعيات وفي درجة استقلاليتها.

أما المستوى الثالث فهو المعيار الوظيفي أو التطبيق على أرض الواقع، فهو يظهر متواضعاً أمام المفترض والمأمول، سواءً من ناحية العدد أو النوعية أو الإدارة أو النضج المؤسسي والتنظيمي اجتماعياً وثقافياً.. فمن معوقات نشاط مؤسسات المجتمع المدني هو عدم النضج المؤسسي وضعف الكفاءة في العمل التنظيمي والتطوعي في مجتمعنا، سواء من ناحية الفلسفة ورسم السياسات والإستراتيجيات وبرامج التنفيذ، أو من ناحية التطبيق والتواصل مع أفراد المجتمع.

ومن المعوقات التي تحد من نشاط مؤسسات المجتمع المدني قِدم اللوائح النظامية والتشريعية الحالية (رغم أنها بصدد التغيير)، فإضافة إلى منع إنشاء المؤسسات النقابية، لا يزال هناك تحفظ على إقامة الاتحادات، مع أن النظام الجديد المتوقع صدوره يسمح بإنشاء اتحادات بين الجمعيات مما يعني فتح الباب للاتحادات الاجتماعية والمهنية والاقتصادية والطلابية والثقافية وغيرها.

ومن المعوقات نجد مسألة تفسير الأنظمة واللوائح التي تحكم عمل تلك المؤسسات، فهناك تفسيرات متشددة تمنع حركة وفعالية هذه المؤسسات.. لذا يظل أهم المعوقات في نظري هو درجة الصلاحيات الممنوحة لتلك المؤسسات ودرجة الرقابة الصارمة عليها وضعف استقلاليتها مما يحد من حركتها وعطائها وفعاليتها وبالتالي عدم انجذاب أفراد المجتمع نحوها..

فعندما لا تستطيع المؤسسة الحديثة أن تتحرك بفاعلية مفيدة لأعضائها أو عندما لا توجد أصلاً مؤسسة مهنية لحماية مصالح أعضائها من أي خلل قد يحدث في الأنظمة أو تطبيقها، فإن بعض أفراد المجتمع يلجأون إلى مؤسساتهم التقليدية القديمة، فهم لا يعرفون غيرها..

فلو استعرضنا التعليقات والمداخلات الإنترنتية على المقالات التي تنشر في الصحف بخصوص هذا الموضوع، سنجد أن من أهمها العبارات التالية:

(هذه المؤسسات التقليدية هي المعروفة لدينا وهي الأفضل فعالية!).. (هذه المؤسسات التقليدية هي الأصل ومؤسساتكم الحديثة لا نفع فيها).. (الإنتماء لهذه المؤسسات التقليدية لا يخل أبداً بالإنتماء للوطن، فلا تتهموننا بما ليس فينا!!).. وكل هذه الأفكار جديرة بالاهتمام والمناقشة برحابة صدر منفتحة وشفافية.

إن ضعف المؤسسات المدنية يعني واقعياً لدى البعض اللجوء إلى المؤسسات القديمة أو على الأقل اللجوء إلى قيمها حتى لو كان كثير من قيمها منتهي الصلاحية، فالناس في وقت التوتر يلجأون لما اعتادوا عليه وما ألفوه من تجارب قديمة، ونرى مثال ذلك في بعض الدول المجاورة من عودة لروح المؤسسة القديمة (الطائفية، القبلية، المناطقية) التي ظن البعض أنها ماتت.. ومن نافلة القول ذكر مخاطر أحياء تلك المؤسسات من رفاتها.. وهذا -كما ذكرت- لا يمنع أن هناك هويات جزئية إيجابية تنضوي تحت لواء الوطن باعتباره الهوية الأكبر الشاملة للجميع.. هوية واحدة موحدة لكل المواطنين.

أخيراً، فإن المقترحات لتفعيل نشاط مؤسسات المجتمع الخيرية والأهلية والمدنية يتم بإزالة المعوقات، وفتح باب النقاش للجميع، فتلك المؤسسات من الناس وإليهم.. ورغم أن المقترحات متعددة ومتشعبة، لكن من وجهة نظري يمكن تلخيصها هنا بوضع أنظمة واضحة ومرنة، وتخفيف حدة الرقابة على المؤسسات - عدا الرقابة المالية- ومنحها الاستقلالية الكافية لتفعيل نشاطها.. ونحتاج إلى مرونة في تفسير اللوائح والأنظمة تمنح المؤسسات مزيداً من الفاعلية، والسماح بكافة أنواع المؤسسات المهنية (النقابات والاتحادات).. ومن المهم تدريب وتثقيف الناشطين والمتطوعين والأعضاء والمهتمين في العمل المؤسسي المدني، وتوعية المجتمع بالدور الكبير والمهم لهذه المؤسسات باعتبارها مكملاً لعمل الدولة وداعماً للاستقرار الاجتماعي والجبهة الداخلية وحصناً من حصون الوطن.



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد