Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/06/2008 G Issue 13053
الثلاثاء 20 جمادىالآخرة 1429   العدد  13053

المواءمة بين حتمية تحول (الخطاب الثقافي) وهيمنة الخصوصية والنسقية..! 4-5
د. حسن بن فهد الهويمل

 

وعودة الإسلام لممارسة حقه همٌ يساور عدداً من المفكرين، والتحول المطلوب لا يمكن تحققه في غياب الثوابت والأنساق والخصوصية، وكم من مفكر عربي حاول أن يعيد الكرّة مرة أخرى، وذلك بطرح مشروعه التصحيحي أو المفهومي

لتأخذ الحضارة العربية مجالها وسط الصراع الحضاري، ولقد ذهب بعض المفكرين الغربيين إلى إمكانية تعايش الثقافات، والمشروع المضاد لنظرية (هنتنغتون) الذي طرحه (هارالد موللر) المتخصص بالعلاقات الدولية قد يكون مجالاً للحوار بدل الصدام أو الصراع، وإن كانت رؤيته محكومة بإشكاليتين: أزمة الحكام وقضية السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وهي رؤية ناقصة لم تستكمل إشكاليات الحضارة العربية، ولكنها قد تحلحل الأزمة، وتفتح آفاقاً جديدة للحوار الحضاري، وبخاصة أن تحولات الخطاب الثقافي العربي مؤذنة بمفاهيم جديدة، قد تسهم بتهدئة الأوضاع ولو إلى حين.

وبعض المفكرين العرب الذين يحلمون بطرح مشاريعهم عبر جهود فردية أو مؤسساتية لم يحالف البعض منهم التوفيق، لعدم تجسير الفجوات والتقريب بين وجهات النظر، فعلى المستوى الفردي نجد (محمد عابد الجابري) في (نقد العقل) وعند (محمد أركون) في (الأنسنة) وعند (حسن حنفي) في جموعة من أعماله التي سماها أجزاء المشروع ككتاب (من العقيدة إلى الثورة) وما تلاها من كُتُب.

هذا في مجال التحولات الفكرية المتفادية للتسيس الثوري أو الحزبي، أما في مجال الحركات الإصلاحية المسيسة أو الحزبية فيبدو لي أنها حراك وقتي تتم تصفيته بعنف، ومن ثم لا يكون فيما تأتي تحول من رؤية إلى رؤية، ولكنه تغير في السلوك أو المواجهة ولهذا لم أجد من المجدي تعقب مثل هذه الحركات التي قد تكون ضالعة في اللعب السياسية، أما على مستوى المؤسسات، فهناك عدد من المؤسسات والمنظمات والهيئات القائمة على رؤى وتصورات قد لا تكون محققة للتحول المنشود، ولكنها تظل إسهاماً فكرياً يستشرف المستقبل، ويتطلع إلى التأسيس والتأصيل، وقد يطرح البعض منها شعار (الانتماء والإنماء) ولكنه انتماء وفق الرؤية لا وفق الحق، ومن أبرز تلك المؤسسات (منتدى الفكر العربي) و(مؤسسة الفكر العربي) و(المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية) وغيرها كثير، وإذ أصرف نظري عن الخطاب الطائفي والحزبي، أصرفه كذلك عن خطابات فردية تتسم بالعاطفية والمثالية بحيث لا تني في الإدانة والتشكيك والاتهام والتيئيس والإحباط والتصنيف، ومع تأثيرها وتأجيجها للعواطف فإنها لا تملك الاستمرارية، وإن عوقت المسيرة إلى حين. على أن هاجس التأسيس لخطاب حضاري تجاوزي ساور كثيراً من المفكرين والدعاة غير أن لحظة الانبهار بالمستجد المبدئي أو المنهجي فوتت على الكثير منهم فرصة الحلم والأناة والرفق، مع أن الذين صدمتهم فداحة المسخ باسم التحول المشروع لم يتوازنوا في مواقفهم بحيث استهلكت المواقف ردود الأفعال، ولم ينل التأسس والتأصيل ما يستحقانه من الجهد والوقت والتقدير والتدبير، الأمر الذي امتد معه زمن التيه، فيما حققت قوميات وأمم أخرى أفضل مما حققته الأمة العربية، وكم من ناقد ساخر متفجر استعاد تجربة (ميجي) في (اليابان) بإزاء تجربة (محمد علي) في مصر، ومدى ما حققته أمة كل واحد منهما.

والذين تستهلكهم الفرضيات، تذهب بهم الظنون كل مذهب، ولكنهم يحبسون أنفسهم في القول المعسول والأماني العذابة، ولقد قالها الشاعر المصري (إسماعيل صبري):

(نَبِيْتُ من المنى نَبْني قصوراً

فَنَدْعمُها ويَهْدِمُها النهار)

والخلط بين الأوهام والحقائق شريعة المفلسين.

إن هناك مصدراً للوعي، ومصدراً للمعرفة، وحين لا نوائم بين المصدرين نقع في التشرذم والارتباك، وهو ما يعانيه الراهن العربي، فالمصدر المعرفي الذي هو في النهاية نسق ثقافي عربي خالص العروبة، ومصدر الوعي الموجه للتحول غربي خالص الغربية، ولو أن قادة الفكر ورواد النهضة وزعماء الإصلاح استطاعوا أن يرحلوا بالتراث لا أن يرحلوا إليه، ولا أن يرحلوا عنه لكان من أن تمكنوا من تقاسم النسقية واقتسام الوعي والمعرفة معاً، وبهذا يتحقق التلاقح الإيجابي.

إن مسؤولية الثقافة العربية الراهنة ليست في الخلوص من الغرب ولكنها في استخلاص المفيد منه، وهو ما لم يتوفر عليه القادة والرواد والزعماء، ومن توفر على شيء منه لم يُتْرك وشأنه، وهذا التشتت في الرؤى والتصورات أدى إلى التنازع والتناجي الآثم، مما ترتب عليه ذهاب الريح والفشل، ولست سبّاقاً إلى التخذيل والفتَّ في العضد ولكنني الأحرص على أن نعرف مواطئ أقدامنا وقدر أنفسنا، وما أضر بالأمة إلا من جهل قدرها وإمكانياتها وما هي بحاجة إليه، وإذ تكون المسؤولية مشتركة فإننا نتحاشى تحديد المسؤولية أو التخلص منها، ومن ثم فإن الذين يركنون إلى الخطاب الديني قد لا يفرقون بين التجديد في الخطاب والترديد الممل، والإشكالية في أسلوب المواجهة للأخطاء، فكم من فئة يتفق أفرادها في المبادئ، ولكنهم يختلفون في الأجراء والتطبيق، وهذا الاختلاف قد يوهم البعض منهم بأنه اختلاف في المبادئ، كما أن الذين يتفلتون على النمطية والماضوية في الخطاب الديني لا يعون الثوابت والمسلمات ولا يفرقون بين الجرأة في الحق والاجتراء عليه، ولو أقبل بعضهم على بعض بنوايا سليمة لكان أن صُفِّيت الخلافات بأسرع وقت وأقل جهد، ولكن بعضهم يقبل على بعض بالتلاوم لا بالتفاهم، والذين يجترحون السيئات يقعون في نواقض الإيمان دون وعي منهم، حتى إذا فُزَّع عن قلوبهم قالوا: لا مزايدة على الإسلام، وهي مقولة صادقة ولكنها غير منجية، والمجازفون في الأحكام يحسبون أنفسهم قادرة على تحصيل ما في الصدور.

وفي هذا السياق، نجد من يخلط بين (الدين) بمفهومه الشرعي و(الايديولوجيا) وعلى ضوء هذا المفهوم الناقص.. يُجْري قلمه على قدم المساواة بين المفهومين، و(الايديولوجيا) هي علم الأفكار، ومنشؤها الاجتهاد والذي لا يحكمه نص برهاني قطعي الدلالة والثبوت والقداسة، فيما يكون (الدين) محكوماً بنص المتميز بثلاث سمات:

- قطعية الدلالة.

- قطعية الثبوت.

- قطعية القداسة.

وهنا لا اجتهاد مع هذا النوع من النصوص، ولا تفكير ولا علم أفكار، فالدين امتثال، وما سواه فخاضع للاجتهاد يحكمه العقل والتصور والنسق، وفي ظل هذه المفاهيم وُجدَ الفقه وأصوله وقواعده.

فالدين أعطى فسحاً كثيرة كحديث (أنتم أدرى بأمور دنياكم) وحديث: (استفت قلبك) وآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمٌْ}. والرسول صلى الله عليه وسلم يتفادى أن يُفْرض على أمته ما لا تَقْدر عليه، ففي صلاة التراويح انقطع عن الجماعة خشية أن تفرض على أمته، وحين انتهى التشريع جمع عمر بن الخطاب المسلمين على إمام واحد لزوال المحذور.

ولمرونة النص الشرعي وقدرته على استيعاب النوازل فقد أصبح نصاً مفتوحاً، وقد منحه الانفتاح الأزلي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية فربَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع) ووعي السامع هنا ليست قدرة ذاتية ولكنها كسبية، فالنوازل كالقنابل الضوئية تضيء عتمة النص، وعلى غير هذا الاستيعاب يأتي النص الانجيلي المحرَّف.

يتبع

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد