Al Jazirah NewsPaper Thursday  03/07/2008 G Issue 13062
الخميس 29 جمادىالآخرة 1429   العدد  13062
إن لم ننجز الدولة فلنحافظ على ثقافتنا وهويتنا الوطنية
د. إبراهيم ابراش

التاريخ والواقع يقولان إن الشعوب والأمم لا تندثر ولا تزول إلا إذا فقدت الإرادة بالحياة أو اجتاحها من الخَطب والملمات الطبيعية ما لا قدرة لها على تحمُّله. شعوب كثيرة كان يظن أنها اندثرت نتيجة توازنات دولية ناتجة عن حروب عالمية، وإذا بها تنبثق من تحت الرماد هادرة وعنيفة مصححة لمظالم التاريخ فارضة وجوداً مجدداً على الخارطة السياسية الدولية.

يكفي أن نتحدث عن الأكراد والشيشان والصرب والبوسنة وجمهوريات البلطيق والتشيك إلخ، ولماذا نذهب بعيداً فالحالة الإسرائيلية تعيش بين ظهرانينا، فمع أن اليهود لم يكونوا في يوم من الأيام أمة ولم يرتبطوا بأرض فلسطين إلا ارتباط عابري السبيل أو المهاجرين بأرض استضافهم أهلها، ولكنهم لم يحترموا أصول الضيافة، بالرغم من ذلك فقد وظفوا مزاعم تاريخية تعود لآلاف السنين لتأسيس حق سياسي يتجسد اليوم بإقامة دولة وبناء أمة لم يكن لها وجود. قد يتغير شكل الكيان السياسي للأمة أو حدوده، قد تلتحق أو تلحق الأمة بأمة أخرى، قد تزول دولة الأمة أو يشتت الشعب، قد تطغى ثقافة على ثقافتها الوطنية، قد تنهزم الأمة بفعل توازن قوى لغير صالحها أو لفشل قياداتها أو حتى خيانتهم لشعبهم، ولكن الأمم والشعوب تبقى ما بقي الثابت والأصيل فيها، وهو هويتها وثقافتها الوطنية، الثقافة والهوية هما الشيء الذي يبقى بعد أن ينهار ويذهب كل شيء، والثقافة الوطنية مرتبطة بالإرادة وليس بموازين القوى، إنها حالة شعورية وغير شعورية، حالة روحانية تسري بين أفراد الأمة سريان الكهرباء، يحس بها أفراد الأمة وتفعل فيهم مفاعيلها التوحيدية دون أن يشاهدوها أو يعرفوا سرها، ثقافة الأمة قد تجدها في الراية الوطنية، في اللباس الشعبي أو الأكلة الشعبية، في اللغة أو اللهجة، في اسم الأمة بحد ذاته، في تاريخ مشترك حتى وإن كان أطلال بيوت أو دور عبادة أو حتى منحوتات صخرية وبقايا عظام، تاريخ يصرخ ويقول هنا كان وعاش الأجداد الأوائل الذين أعطوا للأرض وللأشياء أسماءها، حتى المعاناة على الحدود والمعابر وفي المطارات والإحساس باللجوء والهوان من الوقوف أمام مقرات وكالة الغوث.. إلخ، هذه جزء من الثقافة الوطنية، كما أن ثقافة الصمود والمقاومة عناوين بارزة في ثقافتنا الوطنية. الثقافة والهوية الوطنية هما كل ما يميز الفلسطيني عن غيره؛ ولذا فالثقافة والهوية الوطنية لا تزولان ولا تندثران فهما موجودتان منذ أن أخذت هذه الأرض اسمها (فلسطين)، وتتقوى وتتصلب كل يوم مع كل معاناة أو إبداع وتميز لشعب هذه الأرض.نقول هذا القول وقد هالنا ما لمسناه من حالة إحباط ويأس أصابت أفراداً بل قطاعات كبيرة ليس فقط من عامة الشعب بل حتى من الطبقة المثقفة، حالة يتم التعبير عنها بألفاظ مثل (خريانه) و(مفيش فايدة)، وهذه الحالة تؤدي لرغبة قوية بهجر ليس فقط السياسة بل الوطن، لا يهم إلى أين، بل المهم الخروج من الوطن بأي ثمن، هذه الحالة موجودة في قطاع غزة أكثر مما هي في الضفة الغربية، نفهم رداءة الحالة الاقتصادية وانغلاق الأفق أمام الحلول السياسية سواء أخذت طابع المفاوضات أو المراهنة على العمل العسكري، ولكن السبب الحقيقي لتفشي حالة الإحباط واليأس عند هؤلاء المحبطين والمتشائمين هو أن هؤلاء اختزلوا الأمة والوطن والتاريخ بالحالة السياسية الراهنة، اختزلوها بمؤسسات سلطة وأحزاب ونخب سياسية، اختزلوا كينونة وتاريخ أمة بمشاريع وبرامج لأحزاب وقيادات سياسية، مخالفين بذلك أبسط قواعد علم السياسة ومنطق الأمور، جاهلين ومتجاهلين أن الأحزاب والقيادات والكيانات السياسية ما وجدت إلا لخدمة الأمة في تاريخ محدد وظروف محددة، إنها أدوات عابرة توظف لخدمة الثابت والأصيل، وهو الشعب بثقافته ومصالحه وحقوقه الوطنية، وفشل الأداة لا يعني التخلي عن الأصل أو الهدف بل تغيير الأداة والبحث عن طرق وأدوات وقيادات جديدة.ولنفترض جدلاً - بل قد يكون أمراً واقعاً - أن السلطة بمؤسساتها وسياساتها قد فشلت في أن تكون بمستوى تطلعات واحتياجات الشعب، وأن الأحزاب السياسية ونخبها المأزومة أصبحت عالة على الشعب بل معيقة لأية إمكانية لاستنهاض المشروع الوطني، وأن موازين القوى العسكرية مختلة بشكل كبير لصالح العدو.. إلخ، إذن ما العمل؟ هل نتخلى عن الوطن وننسلخ عن أمتنا الفلسطينية؟ هل نهجر الوطن ونتركه للعابرين الصهاينة وللنخب والقيادات السياسية الفاشلة والفاسدة؟ أم نتجذر ونتمسك بالوطن، الأرض والثقافة والهوية الوطنية، ودعونا نتساءل: ما سر استمرار وجود الأمة الفلسطينية عبر تاريخ يمتد لآلاف السنين؟ ما سر أن هذه الأمة التي تعود لعهد الكنعانيين والتي عندما جاءها العبرانيون غزاة وجدوا كما تقول توراتهم شعب فلسطين يقاتل دفاعاً عن أرضه؟ لماذا استمر اسم فلسطين منذ عهد الكنعانيين إلى اليوم يطلق على هذه الأرض وشعب هذه الأرض بالرغم من تعاقب عدة احتلالات وغزوات وحروب؟.الجواب ببساطة لأن الأمم أو الشعوب لا تموت، وشعب بتاريخ وعظمة الشعب الفلسطيني لا يموت، ذهب البريطانيون والأتراك والصليبيون والرومانيون وكل من حاول أن يحل محل شعب فلسطين على أرض فلسطين، وبقيت فلسطين الأرض والشعب، ما حافظ على استمرار وجود هذا الشعب هو ثقافته وهويته الوطنية، وهما شيء أهم وأكبر من كل الأحزاب والقيادات، الثقافة والهوية بمثابة الدين السسيولوجي للشعب الفلسطيني، وهو ما يجب أن نتمسك به وندافع عنه بكل ما نملك من قوة وعزم، العروبة هي عمق وامتداد وكذا العالم الإسلامي، الثقافة والهوية الوطنية شجرة جذورها في فلسطين وفروعها تتنفس من العالمين العربي والإسلامي، ولكن الهوية والثقافة الوطنية هما الأصل والكينونة، الثقافة والهوية الوطنية هما ما يجمع الفلسطيني في القطاع مع ابن الضفة ومع فلسطينيي 48 وفلسطينيي الشتات بالرغم من التباعد الجغرافي. الثقافة والهوية هما شيفرة الانتماء للوطن، وهما وراء أنه بعد ستين عاماً من النكبة والغربة والاحتلال ما زالت القضية الفلسطينية أكثر القضايا إشغالاً للعالم.

لا شك أن الحالة الفلسطينية السياسية والاقتصادية في وضع مُزرٍ لا يبشر بقرب قيام الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين، ولكن السبب ليس لنقص في شرعية الحق الفلسطيني أو لغياب إرادة الصمود والمقاومة، بل الخلل في موازين قوى تعمل لغير صالح الشعب الفلسطيني، وفي نخب سياسية لم تُحسن إدارة الصراع مع العدو سواء على طاولة المفاوضات أو في مجال المقاومة، وحيث إن هذه أمور عابرة فيجب ألا تؤثر على إيماننا بعدالة قضيتنا أو تدفعنا للاستسلام ورفع الراية البيضاء. إن كانت القيادة والنخب السياسية والأحزاب غير قادرة أن تنجز مشروع الدولة بحيث تترك للأجيال القادمة إمكانية العيش الكريم بدولة مستقلة، فعليها ألا تقطع الطريق على ذلك، وهذا يتطلب منها تمكين الأجيال القادمة من مقومات الصمود والبقاء ومن مقومات بناء الدولة، وأهم هذه المقومات عدم التنازل أو التفريط بالحقوق والثوابت التي توافق عليها غالبية الشعب، وأن تترك لهم ثقافة وطنية أصيلة وهوية وطنية يفتخرون بها.الدولة المستقلة هي عنوان المشروع الوطني ولا شك، ولكن المشروع الوطني أشمل من الدولة ويتعداها، إنه الثقافة والهوية الوطنية، وخصوصا في حالة كالحالة الفلسطينية؛ حيث إن كل الشعب يعيش اليوم بدون دولة، يعيش بقوة كيمياء الثقافة والهوية، وأكثر من نصف الشعب قد يعيش في الشتات حتى بعد قيام دولة المشروع الوطني، ومن هنا يجب التفكير بالحفاظ على الوطن والهوية والثقافة بغض النظر عن التجاذبات السياسية حول تأسيس الدولة. الهوية والثقافة الوطنية يؤسسان الدولة، ولكن الدولة لا تؤسس بالضرورة هوية وثقافة وطنية (مسألة الهوية ما زالت مطروحة بشدة في الولايات المتحدة بعد أكثر من مأتي سنة على قيامها وفي إسرائيل بعد ستين سنة من قيامها)، وحتى لو انقسمت دولة المشروع الوطني لكيانين في الضفة وغزة فيجب الحفاظ على وحدة الثقافة والهوية الوطنية.نتمنى على قيادة الشعب الفلسطيني أن تضع الثقافة الوطنية على سلّم اهتماماتها، وتعمل على وضع استراتيجية ثقافية ذات شمولية لا ترتهن بأجندة الدول المانحة وأن تتعامل مع الثقافة والهوية الوطنية باعتبارها ثقافة عشرة ملايين فلسطيني. وفي هذا السياق يجب تفعيل وتنشيط وزارة الثقافة وزيادة الموازنات المخصصة لها (فمن المؤسف أن تكون موازنة وزارة الثقافة 002،% اثنان بالألف من الموازنة العامة!)، وإن كانت الجهات المانحة غير معنية بدعم الثقافة الوطنية فيجب تفعيل دائرة الثقافة والإعلام بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تم تهميشها عند قيام السلطة لصالح وزارة الثقافة ثم همشت هذه الأخيرة لتصبح الثقافة الوطنية بدون راعٍ، وخصوصاً بالنسبة لنصف الشعب الفلسطيني في الشتات.



Ibrahem_ibrach@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد