Al Jazirah NewsPaper Saturday  05/07/2008 G Issue 13064
السبت 02 رجب 1429   العدد  13064
الثقافة والمكان
د. فوزية البكر

رغم أنني لا أعتقد أنني أميل إلى نقل الأخبار أو تتبعها وأصاب بالضجر والإحباط في أوساط نسائية أو عائلية كثيرة خصوصاً حين ينحرف الحديث لتناول التفاصيل الخاصة إلا أنني أجد أن أحد المتع الحقيقة لي في أي موقف هو تأمل السلوك العام وربطه بمجمل العوامل الثقافية والبيئية التي أعتقد أنها ساهمت في تشكيله وكل موقف نمر فيه هو في الحق لوحة اجتماعية تعكس الكثير من الرسائل المذهلة التي تعج بها أرجاء هذه الثقافة.

إن الثقافة تخترقنا منذ ولادتنا لتكيفنا حسبما ترى بأنها مقبولة لذا فإن ثقافتنا هي كما يرى أشهر دارسيها نيللر: الطريقة التي نأكل بها وننام بها وهي اللغة التي نتكلم بها والقيم والمعتقدات التي نتمسك بها وهي السلع والخدمات التي نشتريها والطريقة التي نشتري بها بل هي الطريقة التي نستهلك بها هذه السلع المشتراه والطريقة التي نقابل بها أصدقاءنا أو الغرباء عنا والطريقة التي نتكلم بها مع أطفالنا كما هي الطريقة التي نستجيب بها لأطفالنا وهي وسائل النقل والترفيه والتواصل والتفاعل الاجتماعي والفردي الذي نستمتع به في مجتمع ما.

لنأخذ على سبيل المثال ثقافة التصرف في الأماكن العامة وهي ليست جزءاً من الموروث وإنما تم استحداثها بخلق مدننا الحديثة وتوطين أهلينا فيها ولذا فلا ميراث قيمي وسلوكي واضح في هذا الشأن وكل يتوقع ويقلد ويسافر ويتعلم وبذا يظهر الأمر مختلطاً سواء على مستوى التصرف أو القيمة: فكيف تحترم دورك في الأماكن العامة، كيف تكون مهذباً عند القيادة إذ إن رغبة كل واحد في العبور بغض النظر عن البقية يعني مزيداً من القلق والزحمة ينعكس أثره حتى على عدم الملتزمين، كيف يتصرف الأطفال فلا يتراكضون في وسط السوبر ماركت وكأنهم في ساحة الدار وكيف لا يمكن لك أن تخرج للبقالة بثوبك المنزلي الخليجي أو البيجامة..

كلها ثقافة معبرة عن مجموع أنماط السلوك التي تحددها ثقافة المكان الذي لم يعتد أنماط السلوك العامة وهي تبدو مستحدثة وغير متجانسة لكونها لم تشكل سلوكاً وتراثاً يتم تعلمه. ثقافتنا المشاغبة إذاً تشكلنا عقلياً وانفعالياً وحتى جسمياً كالإيماءات وتعبيرات الوجه وطرق المشي والجلوس والأكل والنوم بل هي تتداخل حتى في نطاق نومنا وفي الوضع الذي نتخذه (راقب أي جهة تفضل أن تنام عليها بحسب ما تم تعليمه لك كطفل) بل وفي مضمون أحلامنا حين ننام! ففي الشرق مثلاً نميل إلى أن نقترب من بعضنا عند الحديث ولا توجد مسافة مكانية واضحة نفكر في إقامتها بيننا وبين من نتحدث معه مباشرة خصوصاً حين يكون من نفس الجنس في حين تميل المجتمعات الغربية إلى الاحتفاظ بمسافة محددة بين الأشخاص عند الحديث وقد يشعر أحدهم بعدم الارتياح عند تجاوز هذه المسافة لأي سبب.

من جهة أخرى لا يجد اليابانيون غضاضة في أكل الأسماك النية ولكنهم لا يتصورون أكل لحم الجمل ويقدس الهنود أبقارهم ويتوقف الشارع لمرورها في حين تعتبر الأبقار الطعام المفضل لمعظم المجتمعات البشرية. وتحدد الثقافة نوع الانفعالات التي يمكن التعبير عنها ودرجة هذا التعبير ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة عند حدوث الوفيات ففي حين نميل في الشرق ولا نجد حرجاً في التعبير عن انفعالات حادة لفقد عزيز بحيث تتيح الثقافة الصراخ والعويل والبكاء لفترات قد تطول أو تقصر في حين تتوقع الثقافات الغربية إظهار الكثير من الجلد ويعتبر التعبير عن الحزن بشكل ظاهر أحد مظاهر الضعف أو المبالغة غير المقبولة. وفي ذات السياق تتيح الثقافات الإنسانية عامة للنساء التعبير بشكل أكبر عن أحزانهن مقابل ما تتيحه للذكور في هذا المجال بل قد ينظر للرجل بمنظار الضعف الذي يخدش رجولته فيما لو تجرأ على التعبير عن أحزانه أو مارس البكاء ورغم التفاوت الطفيف في الحجم الذي تتيحه الثقافات المختلفة للرجل للتعبير عن حزنه أو ألمه إلا أننا قد نجدها كظاهرة متكررة في معظم الثقافات بأن تنهر الأم الولد عن البكاء حتى (لا يصبح مثل البنات)! وتحدد الثقافة كيف نفكر في العالم وكيف ندركه وكل ثقافة تفرض شبكة رموزها على الواقع بحيث إن كل واحد منا يفهم هذه الحقيقة من خلال الرموز التي توفرها له ثقافته. وكما يقول نيللر فإن الحقيقة لا توجد بالنسبة لنا إلا إلى الحد الذي جعلتها الثقافة متاحة. فلفترة طويلة ظل البشر يعتقدون بأن الأرض منبسطة حتى أتاح العلم معرفة كافية بعدم صحة هذا المعتقد والأمر نفسه بالنسبة لكثير من الظواهر الطبيعية كالرعد والبرق وقلة المطر أو كثرته وغيرها كثير والتي تقدم لها الثقافات المختلفة تفسيرات رمزية أو ثقافية يرتبط بها الفرد ويقيم من خلالها الكثير من الطقوس والممارسات الاجتماعية والطقوسية رغم وجود التفسيرات العلمية. وهكذا نجد أننا في الحقيقة نعيش في عالم مفعم بالرموز التي خلقتها الثقافة بواسطة اللغة أو كما يقول أرنست كاسسيرر: إن الإنسان لم يعد يعيش في مجرد عالم فيزيائي بل يعيش في عالم رمزي فاللغة والأسطورة والفن والقيم اجتماعية أو أخلاقية هي أجزاء من هذا الكون... ولا يستطيع الإنسان أن يجابه الواقع مباشرة فهو لا يستطيع أن يراه كما هو وجهاً لوجه، إن عليه أن يغلف نفسه في صيغ لغوية وفي صور ذهنية وفنية وفي رموز أسطورية أو في طقوس قيمية بحيث إنه لا يستطيع أن يرى أو يعرف شيئاً إلا بتدخل هذه الوسيلة المصطنعة!.

ورغم أن عملية التثقيف هذه تستمر مع الفرد الإنساني طوال حياته إلا أنها تكون على أشدها في سنواته الأولى بحيث يتخذ الصغير من الكبار معياراً له للرفض أو القبول بحسب البيئة التي ينشأ فيها إلا أنه ومع النضج يبدأ في التكيف ليتحرك بسهولة ولكن ضمن نطاق المقبول له اجتماعياً. ومن الملاحظ أن بعض الثقافات تميل إلى تكوين شخصيات راشدة تشربت بعمق عادات الثقافة واتجاهاتها لتكون أشد صرامة وتمسكاً بالمعايير الثقافية السائدة كثقافتنا هنا في حين تميل مجتمعات أخرى إلى التدريب في سنوات النمو على أهمية الحكم المستقل والنقدي بما يساعد الراشد على تقبل ونخل المتغيرات الجديدة والمشاركة في تقبلها أو إدخالها لثقافته بشكل عام وهو ما يضمن ثقافة ديناميكية متغيرة تتماشى مع حركة العصر في حين تعاني الثقافات التي تميل إلى تربية راشدين صارمين متزمتين وبقوالب أخلاقية جامدة إلى التحجر وربما العجز عن مواجهة التغيير مما يعني الكثير من الصراع على المستوى الفردي والاجتماعي تماماً كما نعيشه اليوم داخل جدراننا.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد