Al Jazirah NewsPaper Saturday  05/07/2008 G Issue 13064
السبت 02 رجب 1429   العدد  13064
الضريبة
منيرة ناصر آل سليمان

داهمني صوتها هذا الصباح! أعرفها من نبراتها! ثمة خطب! هكذا يبدو، كان صوتها مثقلا حد الأنين، أشبه بآهة حرى يكاد لهيبها يلفحني، أنفاسها تتلاحق تسابق حروفها المبتورة، تقذفها على عجل وهي تحملها ما تستطيع من مشاعر الأسى والخوف حد الهلع.

دارت في مخيلتي أسئلة شتى لثوان فقط عصفت بي توقعات هائلة لما يمكن أن يكون تفسيرا طبيعيا لهذه الحالة! كنت أتشبث بسماعة الهاتف أقبض عليها بقوة كدت أعصرها لكنني توكلت على الله تعالى وبدأت أتجاوز أسئلتي التلقائية عن الحال والأحوال قذفت الكرة تجاهها لتستقر في مرماها لعلها تقول وتهدئ قلقي! لم أكد أتم سؤالي عن أنينها حتى تلاحقت حروفها وقد نتأتها من أعماقها، ألقت اسم امرأة ثم دحرجت سؤالاً مباغتاً:هل تذكرينها؟

تداخلت صور شتى لكنها مشوشة لقسمات نساء كثيرات أعرفهن من وطنها يعشن هنا في أمريكا حيث المنفى الاختياري أو الإجباري سيان فهو منفى على أية حال! تساءلت بحرقة وقد اختفت الوجوه والأسماء من مخيلتي كالصدمة! ترى أي واحدة منهن؟ بل أي وجه؟ وأي اسم؟ عاودت التأكيد والوصف لعلي أتبين من تكون! ليستقر أخيرا وجه زينب ذابلا بين عيني أكاد أرى هطل دموعها ونزف قلبها وصديقتي (أم يوسف) تقذف حمم كلماتها تلهب أذني وقلبي! حالة أخرى جديدة، سر آخر ينكشف ينفرط من بين أنامل معرورقة لأمهات وآباء يحيطون صغارهم الذين كبروا، الذين تبرعموا هنا بعيدا عن أوطانهم، نشؤوا وقد تسللت إلى عروقهم ثقافات أخرى أقلقت قناعات آبائهم وأمهاتهم أحزنتها حد البكاء! ذكرت الله كثيرا وتذكرت زينب المريضة دائما ووجهها الأصفر الشاحب وحساسيتها المفرطة من أي شيء وغضبها على كل شيء وقد اتضح سببه الآن كانت تداري سراً كبيراً رأته مخجلاً أمام الجميع! نراها عليلة تكاد تنفرط من أمامنا تهتكت معدتها وأصبح من الضروري إجراء عملية جراحية عاجلة لازالت تخشاها حتى الآن!.

أكدت مُهاتفتي مخاوفي وهي تعلن أنها الأسوأ بين الحالات السابقة، هذه المرة تتعلق بفتاة، ببنت زينب! شابة صغيرة لم تتم العشرين بعد خطبت عن بعد لرجل من وطنها هكذا شعرت زينب وزوجها بالراحة تجاه مخاوفهما، يربطونها برجل ولو بالكلام فتشعر أنها في كنف رجل، ذلك جيد! لكنها لم تستمر في اللعبة وخرجت عن طوعهم هي حرة وفي بلاد الحرية! اختارت رجلاً أمريكياً جيداً، إنه مسلم! فرضته على أهلها.

هكذا تابعت أم يوسف وحين رفضوا زوجت نفسها بحضور إمام المسجد وشقيقتها ثم تركت أهلها يندبون واقعهم المؤلم ويلوكون خيبة الحرج مع خطيبها السابق! شهقت أم يوسف في أسى وهي تقول لديها الآن طفلين ونحن لا نعلم! وتابعت: ليسوا أصحاء فيما يبدو والابنة أيضاً مريضة لذلك عادت لأمها الآن! ولازال والدها وشقيقها غاضبين حد القهر لكنهما مكبلان بالقانون!

تذكرت أم مصعب (وصديقتي تعلن أنها أهون من زينب على الأقل!)

تلك المرأة المكلومة بزواج ابنها البكر من أمريكية لديها ابن أيضا! تبدو في قسماتها منسجمة مع أشكالهم! شابة تبدو قوية حد الإزعاج هكذا كان انطباعي الأول عنها وأنا أراها لأول مرة تصرخ في هيستريا عجيبة تمسح دموعها حينا وتصر على أسنانها أحيانا كثيرة تتمنى الانتقام من تلك المسكينة المعاقة التي ضربت صغيرتها! وتعلن بصوت نابح أنها تستطيع أن تضربها لكنها تعرف أنها مريضة، كادت تفسد مناسبة كبيرة اجتمعنا فيها نحن المسلمين! كانت احتفالية بزواج (رحيق) شقيقة زوجها.. كنت أشعر بالضيق وأم مصعب بيديها الحانيتين تمسح دموع الأمريكية تحضنها في قلق، وأم الفتاة المسكينة تبكي في حرقة!

قالت لي أم يوسف فيما بعد إن أم مصعب وإحدى قريباتها بقتا طوال الليل تغسلان قدمي زوجة ابنها الأمريكية بالماء الدافئ يداعبنها في صبر نافذ حتى لا تخبر الشرطة أو تذهب بالحفيدة للطبيب ويدري هو أيضا! والصغيرة تبدو سليمة ولم تتركها أم مصعب حتى أضحكتها وشعرت برضاها. أفقت على زفرات أم يوسف وهي تختم ذكرياتها عن أم مصعب وكيف مادت الأرض من تحتها حين علمت بسر ابنها أشفقت عليها كثيرا أمام ما تراه من انسلاخ الأبناء ومن ثم الأحفاد من هويتهم حين يسلمونهم لأمهات غير مسلمات!

مؤلم حد القهر أن ترى حفيدك الصغير يذهب يوم الأحد للكنيسة ووالده المسلم لا يستطيع أن يمنعه! أو ينشأ في أحضان جدة نصرانية متدينة حد أن تميله لها! خصوصاً حين تكون أمه مسلمة بالاسم فقط! حاولت أم مصعب واجتهدت كثيراً وخسرت أكثر وهي تسافر بأبنائها حيث بعض الأقرباء المسلمين في بلادهم ليختاروا عرائس منهم (كما يفعل كثيرون هنا) بعد أن رفض مصعب كل صويحبات الصور التي عرضتها عليه من بنات الجالية! قال مصعب حينها بعد عودتهم: سأتزوج يا أمي أمريكية، رفضت ووالده وتشبثت بكل محاولة للإقناع ليتسرب خبر زواجه إليها فيما بعد من آخرين، كانت ترفض أن تصدق وهي تراه في البيت لم يغادر حتى أقبل عليها ذات يوم يعلن أنه أصبح أبا لطفله وأقحمهم في محيط العائلة الحفيدة الصغيرة وزوجته الأمريكية وابنها الأشقر!

تفجرت مخاوف صديقتي على ابنتها وابنها الشابين وصغيرين آخرين في الطريق للمراهقة.. فأن يصبح ذلك الزواج طبيعياً بين جاليتهم مقلق حد أن ترعبني بصوتها هذا الصباح! ظللت أهدئ روعها وأتلمس ما يذهب مخاوفها؛ فأولادها عقلاء وقد أحسنت تربيتهم.

بدأت تودعني وهي تحاول تمثيل الدور جيداً لتكون مقتنعة لحظوياً على أية حال! ختمت عبارات توديعها بحسرة على اليوم الذي قرروا فيه المجيء لهذا البلد وتأسى على عدم بقائهم في بلد الخير جوار الكعبة المشرفة!

ثم شهقت وهي تتذكر حدثاً مهماً، وانتظرتُ أنا صدمة جديدة على حد تعبيرها، قالت في ذبول: رحيق أخت مصعب لم تتزوج من بلدها أيضا! وتابعت في قناعة لكن زوجها على الأقل من بلد قريب من بلدهم!

جال في خاطري توجس المدعوات يوم الحفلة عن جنسية العريس خصوصاً أنه قدم من ولاية بعيدة؟ كن يتهامسن ويبحثن عن بعض المفاجآت حتى انشغلن برقصاتهن الوطنية المميزة.

ودعت صاحبتي وأرخيت يدي في ألم وأنا أغلق سماعة الهاتف أخيرا وكلماتي الأخيرة لها يرجع صداها إلي تعلن عدم ثقتي وربما شك صديقتي في حسن التربية وتعقل الأبناء فحتى زينب وأم مصعب كانتا كذلك تعبتا في التربية وتعقيل الأبناء نشؤوا في بلاد عربية وإسلامية بعيدا عن بلادهم المثقلة بالحروب أحيانا وضغوط الحكومة غير المسلمة عليهم أحياناً كثيرة!

علموهم العربية والدين الإسلامي، أخرجوهم من مدارسها ثم جاؤوا غرباء هنا ليحصل الأبناء على الشهادات العليا والمستقبل الذي عز عليهم في أوطانهم الثانية! لتصبح الغربة لهم وطنا ثالثا بما فيه من مفاجآت!



marrfa@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد