Al Jazirah NewsPaper Saturday  05/07/2008 G Issue 13064
السبت 02 رجب 1429   العدد  13064
وقفة مع تاريخ الإدارة في الدولة الإسلامية
د. حمد بن محمد آل فريان

بتتبع كتب السيرة النبوية وباستقراء كتب الحديث وكتب المغازي بل كتب التاريخ الإسلامي بعامة، يتضح أن الإدارة الإسلامية كانت قد أرسيت قواعدها وطبقت نظمها وعرفت أساليبها واتضحت معالمها منذ قيام دولة الإسلام في العهد النبوي الشريف.

وفي هذا المعنى يقول علماء المسلمين: إن من تتبع تاريخ الإسلام يجد أنه في العهد النبوي كانت هناك وظائف في دولة الإسلام متنوعة أُسندت للأكفاء من أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ومن هذه الوظائف؛ ولاية القضاء والكتابة بأنواعها والعهود والمواثيق والرسل والترجمة والعاملين على الصدقات والقاسمين، والإمارات وقيادة الأجناد وحمل الرايات والعيون والحراسات وأهل السر إلى غير ذلك من الوظائف الأخرى، وما أشير إليه هنا إنما قصد به ضرب المثل ليس إلا.

ويقول العلماء أيضًا كان في العهد النبوي تحديد واضح وناجز للسلطات والصلاحيات ووحدة في القيادة وفي الأمر، في نطاق التمكن ومبدأ تكافؤ السلطة مع المسؤولية، وتطبيق لمبدأ اللامركزية في إدارة الدولة، وهناك تنسيق كامل بين المستويات على أساس المشروعية على نحو يحقق الانسجام والبت والإنجاز ويضمن الاستقرار والأمن وتحقيق العدل والشورى والمساواة.

يقول الشيخ عبدالحي الكتاني: إن من عرف نهضة الإسلام وتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمعن النظر في تلك النهضة تحقق أن ليس هناك من أساليب التمدن ما لم يكن للإسلام وقت ظهوره أصلاً له وينبوعًا. انظر كتاب (نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية) للكتاني ط الكتاب العربي بيروت.

وفي عهد الخلفاء الراشدين برزت بجلاء عالمية الإدارة الإسلامية التي أرسى قواعدها النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وتبين للباحثين سعة أفقها ومصداقية عدلها واعتدالها ووسطيتها، وتبين أيضًا أنه إذا طبقت قواعد الإدارة الإسلامية تطبيقًا حسنًا وفُعّلت مبادؤها بحكمة وبعد نظر، فإنه يتحقق لا محالة اجتماع كلمة الأمة وتضامنها وانقيادها ورضائها، ويستدلون على ذلك بعهد عمر بن الخطاب بخاصة وصدر الخلافة الراشدة بعامة وقبل ذلك العهد النبوي، ففي عهد عمر اتسع نطاق الإشراف الإداري تبعًا لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، وتبعًا لتنوع الشعوب والأعراف والأعراق والبيئات، وعلى الرغم من تعاظم الأعباء وتشعب الواجبات وقسوة المواجهة إلا إن الإدارة في عهد عمر كانت ناجحة بكل المقاييس، وقد سعد الناس بالأمن والاستقرار والرعاية المتميزة. وبعد عهد صدر الخلافة الراشدة واجهت الإدارة الإسلامية على مر التاريخ فتناً ومحناً وهزائم وانتصارات وأمناً وخوفاً واجتماعاً وانقساماً وعلماً وجهلاً تبعًا لواقع الأمة الإسلامية في كل عصر قوة وضعفًا، إلا أن قواعد الإدارة الإسلامية ومبادءها بقيت خالدة في جوهرها وفي حقيقتها محتفظة بجاهزيتها ومصداقيتها تؤتي ثمارها، كلما أحسن تطبيق قواعدها وفُعّلت مبادؤها بالعلم والعدل وصحة العقيدة وحسن النية وعبقرية القيادة، ويبرهن على صحة هذا المفهوم ويعززه في نظر الباحثين ما حصل للإدارة الإسلامية بعد قيام دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ومناصرة الإمام محمد بن سعود لتلك الدعوة، حيث نهضت الإدارة الإسلامية من كبوتها بحيوية ونشاط وبفاعلية معلومة في جميع أدوار الدولة السعودية الأولى والثانية وتألقت أكثر فأكثر في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحم الله الجميع.

وأثبتت الإدارة الإسلامية جدارتها ومقدرتها وتميزها من ذلك الوقت إلى يومنا هذا خلفًا عن سلف. وإذا قدر لعلماء الإدارة والتنظيم المعاصرين أن يدرسوا هذه التجربة بعناية وبتجرد وأن يجمعوا بين محاسن ما علموه من الفكر الإداري الحديث وبين قواعد وأطر ومنطلقات ومبادئ الإدارة الإسلامية علمًا وعملاً ويفعلوا هذا التلاقح والتكامل بتدريس الإدارة الإسلامية في معاهد الإدارة العامة القائمة في الدول العربية والإسلامية، إذا افترضنا ذلك فسيتعرف العالم على إدارة رفيعة المستوى فذة متميزة بأخلاقياتها وبعدلها وبصفائها وإنسانيتها وسيجدها الناس قادرة على العطاء مفتوحة الأبواب لكل جديد مفيد لا يتعارض مع القيم والعقيدة الصحيحة، وسيجدونها إدارة معتدلة عاقلة بعيدة عن منزلقات الإدارة الحديثة في تفسخها وفي غلوها غير الرشيد في الحرية الفردية، وبعيدة أيضًا عن نزعة الإدارة الحديثة المندفعة في طريق الإسراف في الكماليات تحت إغراء الدعاية والإعلان والموضة والموديل سعيًا إلى تحقيق أعلى معدل في الاقتصاد ولو كان ذلك على حساب سعادة المجتمع ورفاهيته.

وبعيدة أيضًا عن هفوات الديمقراطية، حيث عملت الديمقراطية على شحذ همة المجتمع بأن يطالب المنتخب بغير الممكن ويعد المرشح بما يعلم هو قبل غيره أنه لن يحقق ما وعد به مما أدخل المجتمعات في دوامة المطالبات المبالغ فيها والوعود غير ذات المصداقية مما أوجد بلبلة فكرية وضعفاً في الثقة المتبادلة.

هذا من وجه، ومن وجه آخر فقد علمت البشرية يقينًا أن الماركسية هي الأخرى لم تستطع أن تقدم حلاً للمشاكل البشرية، إذ المشكلة ليست الصراع الطبقي كما تدعيه الماركسية وإنما تتمثل المشكلة في الانحلال الخلقي وفي المعتقد وقد لعبت الماركسية دورًا أساسياً في نسف الأخلاق ونسف المعتقد، ومن هنا يمكن القول بأن بإمكان البشرية أن تنهل من معين الإدارة الإسلامية أخذًا وعطاءً وحوارًا بناءً رفيع المستوى يعنى بالمصدر الأساسي للمشكلات البشرية في ضوء القيم والمعتقدات ليتحقق الرفاه للبشرية وتستكمل البشرية عناصر رشدها ودعائم فلاحها.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد