Al Jazirah NewsPaper Sunday  06/07/2008 G Issue 13065
الأحد 03 رجب 1429   العدد  13065
هذرلوجيا
الكائن النزق
سليمان الفليح

الشعر كائن حي يعيش معك كالقرين أو هو القرين بعينه يقاسمك الهواء والدم والروح. يتنفس معك ويسير في عروقك ويحلق في فضاء ذاتك الشاسعة وهو مخلوق حساس (نزقَ قلِق، صفق) ودود، صدوق، حقود إذا ما تجاهلته أو لم تعره الاهتمام لأنه يمتلك كبرياء هائلة لا تحتشد إلا في ذاته النرجسية المتعالية وهو كائن وفيّ باسل يرفعك من عضديك كلما تهاويت من ضربات الحياة ويرفع هامتك للعُلا ويؤجج روحك بالقوة اللامتناهية ويشحنك بالجسارة الطاغية تحت أقسى الظروف تماماً كما فعل مع الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت حينما أُقتيد ليُحبس في قاع سفينة عسكرية تمخر فيه البسفور وإمعاناً في إهانته أطلق العسكر عليه بواليع السفينة لتجتاح غرفته الحديدية الضيقة، وكان الماء القذر يعلو شيئاً فشيئاً وحينما وصل إلى عنقه تقدم إليه (قرينه - الشعر) ودعاه لأن يُغمض عينيه قليلاً ليأخذه إلى هضاب الأناضول التي تغنى بها طويلاً فأحس برائحة أزهار الحقول وحفيف الأشجار وخرير الجداول وأغاريد الطيور، وحينها أطلق الشاعر عقيرته بالغناء وهو يغني من أجل بلاده الخالدة.

الأمر الذي أصاب العسكر بالاختبال إذ كيف آدمي وهو بهذا الوضع الخانق الحقير ولذلك وبدون أي شعور منهم أخذوا يصفقون ويغنون خلفه أغنيات وطنهم الجميل.

والشعر هو الذي قتل المتنبي لئلا تُمس كرامة الشاعر بالفرار. وهو أيضاً الذي قضى على شاعر روسيا الكبير (بوشكين) دفاعاً عن الحب الذي يُعتبر قيمة عظمى لدى الشعر والشاعر على حدٍ سواء، والشعر هو الذي نطق بلسان شاعره البدوي محدى الهبداني لينقذ قبيلته من غزو ساحق على الرغم من أنه مطرود منها لدى قبيلة الأعداء.

والشعر هو النشيد الوطني الفرنسي (المارسيليز) الذي أيقظ في الشعب الفرنسي حسه الوطني ودفعه لمقاومة المحتلين الألمان، والشعر على النطاق الخليجي هو السبب الحقيقي لاعتقال الشاعر العذب فايق عبدالجليل إبان الغزو الصدامي الغاشم وبالتالي اغتياله ليصبح شهيداً من أجل بلاده الكويت لأنه غنى لها في المُلمات.

***

لذا فالشعر كائن عملاق ولكنه شديد الحساسية من أي أمر ينتقص من قيمته وأهميته حتى ولو جاء من قرينه الشاعر ذاته بل إنه ينتقم من شاعره بالقطيعة أشد الانتقام إذا ما أحس بأي انصراف عنه، ولعلي في هذا الصدد أتذكر موقفاً معه حينما انشغلت عنه بعض الوقت وكانت هذه القصيدة بمثابة (رشوة) له ليعود إليَّ بعد قطيعة مؤقتة:

الشعر غادرني وغاب

في رحلة إلى الصحراء

ليجمع النوار والكمأ

لكي يشم الريح والانداء

لكي يمارس الجموح في العراء

لكي يطير مثل الصقر في الفضاء

لكي يطالع الأنواء

لكي يمارس النزق

الشعر غادرني وهو الذي قد كان

صديقي الذي

شاركني

الجوع

والترحال

والحزن والأرق

ثم تتحدث القصيدة عن رفقته لي طوال العمر في تشردي الجميل في ظلمة الشوارع الخلفية، الغريبة الأسماء، وهو الذي لطالما عاركته لأتفه الأشياء، ثم تتحدث القصيدة عن عراكي معه:

لكمته قددت ثوبه الجديد

لكمني أسال من جروحي الدماء

طاردته، أمسكته في آخر النفق

أنهكته أنهكني وآخراً

عانقته وعدنا أصدقاء

عاهدته بأن نظل أوفياء

للصدق والجمال والنقاء

عاهدته على الولاء

أسكنته جوانحي وقلبي المضياء

فعاد لي مرفرفا في روحي الخضراء

فشعّ وائتلق



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7555 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد