Al Jazirah NewsPaper Monday  07/07/2008 G Issue 13066
الأثنين 04 رجب 1429   العدد  13066
تعليم الجمود وثقافة العجز
د. عبدالرحمن الحبيب

في الدراسة العلمية التالية التي قام بها العالِم النفسي مارتين سليجمان الملقّب بفرويد القرن الواحد والعشرين، والتي تُعَد واحدة من أهم التجارب النفسية خلال المائة عام الأخيرة، تم إثبات أنّ تعليم العجز والجمود وقبول القمع، هو ظاهرة عامة غالباً ما تسيطر على عقول ومواقف وتوجُّهات البشر ..

أجرى سليجمان تجربة ملخّصها أنّه وضع مجموعة من الكلاب في قفص مغلق، ووضع مجموعة ثانية في قفص به فتحة تسمح بالهروب .. بعد ذلك عرض لكلتا المجموعتين صعقات كهربية خفيفة في أرضية القفصين.

الكلاب في القفص المفتوح تعلّمت بسرعة الفرار خارجاً، بينما الكلاب التي في القفص المغلق سرعان ما توقّفت عن محاولة الهروب وظلّت رابضة وقبلت بسلبية قدرها .. لقد تعلّمت الشعور بالعجز والجمود، وقبلت عدم التغيير.

نفس مجموعتي الكلاب وُضعت فرادى في أقفاص مغلقة ومقسّمة أرضيتها على جزئين إحدهما خال من الصعقة الكهربية. الكلاب التي كانت سابقاً في الأقفاص المفتوحة تعلّمت بسرعة الذهاب إلى الجزء الآمن من الصعقات، بينما أغلب الكلاب التي كانت سابقاً في القفص المغلق والتي تعلّمت الشعور بالعجز واللاجدوى، ظلّت مكانها تتعرّض للصعقات بأنين، لكنها بسلبية قبلت آلامها ورفضت التغيير.

ولقد تم تكرار هذه التجربة من باحثين آخرين وبأنواع مختلفة، وكلها برهنت على أنّ العجز أو التقاعس الذي تم التعلُّم عليه هو ظاهرة عامة تسيطر على مواقف وتوجُّهات من يتعرّض له، ليس في الحيوانات فقط بل حتى من بني البشر.

وهذه السيطرة التعليمية التربوية تسبب أضراراً لا حصر لها للبشر. إنها تسبب إجهاد وتوتُّر نفسي ثابت ومستمر، صفاتها الكآبة والإحباط والقلق والخوف والحذر المبالغ فيه، أو ما يسميه دان بيكر (الحارس المتيقظ 24 ساعة يومياً) ..

وبيكر الخبير النفسي هو مؤلِّف كتاب علمي عنوانه (ماذا يعرف الناس السعداء) (What Happy People Know) مع زميله كاميرون ستوث.

ويوضح المؤلّفان أنّ هذه الحالة المَرضية تحدث عندما يشعر الناس أنّه مغلوب على أمرهم ولا يستطيعون تدبُّر أو إدراة المحيط حولهم. وهنا يتسحوذ الخوف على العديد من الناس الذين لا يحاولون المواجهة ولا الهروب، بل يظلّون جامدين، وبكلِّ سلبية ينتظرون أن يمضي التهديد من تلقاء نفسه. هذه الحالة المَرَضية الذهنية تتحوّل إلى إجهاد جسدي، لأنّها تحفز نشاط الجهاز العصبي العاطفي بشكل مفرط، مما يؤدي إلى إطلاق هرومنات التوتُّر النفسي بما فيها الكورتيزول. وهذا الإجهاد الجسدي يستنزف جهاز المناعة ويضر بالقلب ويساهم بعلل عديدة ..

والأسوأ من كلِّ ذلك - حسب المؤلّفين - أنّ ردود الفعل الجسدية تعزِّز التوعُّك الذهني عبر استنزاف المصول العصبية المهدئة داخل الجسم.

هذا الاستنزاف أثبتته العديد من الأبحاث العلمية النفسية والفسيولوجية. لذا وبسبب أنّ إجهاد العجز الذي تم تعلُّمه يمكن أن يكتسح الكيمياء الحيوية لعقولنا، فإنّه يمكنه أن يديم حلقة مستمرة من الأفكار السلبية. وعندما تسيطر حلقة العجز على الذهن، فهي تساهم بأخطاء رئيسية في المفاهيم الإدراكية والحسية. وهي غالباً تحصل في ثلاثة مواقف أساسية: عندما يفشل شخص مرات عديدة، عندما يُحجر شخص في ورطة كل خياراتها خاسرة، أو - وهذا هو الأكثر انتشاراً - عندما يتعرّض شخص للسيطرة من قِبل شخص آخر يسلب منه فرصته للاختيار، وهذا الأخير هو أسوأها.

ويعرض المؤلّفان إمكانية لحل كل حالة .. فعند تكرار فشلك في المحاولة، تذكّر أنّ الفشل يحدث فقط عندما تتوقّف عن المحاولة، فطالما أنت تحاول فأنت لست فاشلاً، لأنّ في كل محاولة إمكانية. اعلم أنّ توماس إديسون فشل في اختراع المصباح الكهربائي في الألفي محاولة الأولى! أما إذا شعرت أنك محجور في ورطة تحاصرك، فاعمل جهداً مثابراً للنظر خارج هذا الحصار من أجل ابتداع حل .. وتذكّر أن لا ورطة تدمر كل الحياة أو تدوم للأبد.

والأخطر من كل ذلك هو عندما يسلب خيارك وقرارك الشخصي .. كن شجاعاً بما يكفي للمقاومة عندما يريد شخص ما أن يسلب حقك في اتخاذ قراراتك الخاصة بك. إذا اتبعت صوت قلبك، فمن الممكن أن تتخذ القرار السليم. وحتى لو كنت مخطئاً، فسوف تتعلّم من خطئك. إنّ توم واتسون مؤسس شركة أي بي إم (IBM) كسب الثروة عبر ترك المدراء في شركته يتخذون قراراتهم. في إحدى المرات، عندما أدى قرار خاطئ إلى التسبُّب في خسارة عشرة ملايين دولار، عرض المدير المتسبب استقالته .. لكن واستون رد عليه: ماذا؟ بعد أن أنفقت 10 ملايين دولار في تعليمك!؟ ممارسة الخطأ هو جزء من التعلُّم ..

إنّ أغلب الأشخاص الذين يريدون سلب الآخرين حقهم في اتخاذ خياراتهم وقراراتهم الخاصة بهم، يعملون ذلك لأنهم هم أنفسهم يشعرون بالعجز.

عدم الشعور بالآمان هو طابع نمطي للاستبداد.

لكن هناك قوة أعتى تجعل البعض يسلبون الآخرين حقهم في الخيار. ينبغي أن تكون حذراً من هذه القوة .. إنّه الحُبّ! نعم الحب في حالته الجيدة يعطي أهم معنى لحياتنا، لكن الحب يمكن أن يدمر، عندما يتدخل المحبّ (الأب أو الأم غالباً) في خصوصية حياة من يُحب ويسلب منه حقه في خياراته وقرارته الخاصة به .. وقد أوضحت الدراسات حالات تبيِّن كيف أنّ سيطرة المحب تسلب المحبوب قدراته وتضعفه في مواجهة صعوبات الحياة لتجعله - في النهاية ومن دون قصد - عاجزاً فاشلاً ..

وإذا انتقلت في مسألة الحب المدمر من علم النفس الفردي إلى علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي، فذلك يذكِّرني بكثير من أعضاء البرلمانات العربية وأصحاب النفوذ الفكري والدُعاة والفقهاء والقُضاة في مجتمعاتنا العربية، الذين يطالبون بالحدِّ من حرية الإعلام وبمصادرة حقوق أساسية في حرية التعبير للمفكرين والكتَّاب والفنانين، من فرط حبهم لنا! حتى أصبحت السلطات العربية منقذاً لبعض المبدعين من جور المتسلّطين، بعد أن كانت السلطات عبر التاريخ هي المتسلّط الأول، لأنّ هذا وضعها الطبيعي.

إنّ أولئك المحبين المتسلّطين يظنون أننا غير مؤهّلين لحرية اتخاذ خياراتنا وقراراتنا وأفكارنا.

وكما أوضحت الدراسات العلمية أنّ سيطرة المستبد أساسها في الغالب عجزه وتكرار فشله، فكذلك يشعر كثير من أولئك أنهم عاجزون، فمن ثم يمارسون التسلُّط على الآخرين .. لماذا يشعرون بالعجز؟ لأنهم محبطون من كل التجارب العربية السابقة التي تكرّر فشلها (النهضوية اللبرالية، القومية، اليسارية، الإسلاموية ..) فيتقوقعون في مواقعهم ويطالبون الآخرين بالجمود ويرفضون أي نوع من التغيير، ولو أتت صعقات كهربية خفيفة أو حتى عنيفة فهم جامدون ..

alhebib@yahoo@com


لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد