Al Jazirah NewsPaper Monday  07/07/2008 G Issue 13066
الأثنين 04 رجب 1429   العدد  13066
معاناة نفسية بالمجان
د. عبد المحسن بن عبد الله التويجري

سأله ابنه قائلاً: أراك اليوم ضائقاً وتبدو عليك كآبة وقلق، إنه مظهر لا أعرف ماذا يخفي، وما أنتَ عليه من الباطن؟.

عهدتك يا والدي بما هو مشابه لهذا ولكن ليس بهذه الحدّة، أجابه والده: أحسّ يا بني بخوفٍ ووجلٍ، أرقب الغد بكثيرٍ من الخشية؛

فبالأمس أتى إلى متجري أحد العملاء واختلفنا على سعرِ ما رغب في شرائه، فهددني بإخطار وكيل الشركة المصدّرة لهذه البضاعة كي لا أكون موزعاً لها، وأمام هذا التهديد خفت، وكما ترى فإني كئيبٌ قلقٌ خائفٌ من قرارِ الوكيل المُعتمد، فلربما حجب عني الثقة كموزع.

فعلَّقَ الابنُ بأنَّ كل غدٍ له جديد ومفاجآت، ولا يجب أن تخاف المجهول إلى درجة تتعطَّل معها مقدرتنا على الإنجاز، وما خططنا له بالأمس وبدأنا في تفعيله اليوم.. والثقة بالله ثم بالنفس والسلوك المهني وفق ضوابط خلقية مصادرٌ للقوة، وغداً قد يأتي بما هو بهجة لنا.

فوبخه والده قائلاً: إذا لم نخف من مجهول لا نعرف إلا القليل من ملامحه يدفعُ به ومن ورائه أشرارٌ سيطرت عليهم محبة الذات قبل وبعد كل شيء يتعلق بذات الغير، فأي عمل يمكن إنجازه أو الاطمئنان على مستقبله! فدعا الابن لوالده، واستأذن بالانصراف وهو يردد مع نفسه: اللهم ارحمنا من تلك التوافه.

وحين التقى بوالده في الغدّ وجده بحالة أشدّ وضيقٍ وقلقٍ وكآبةٍ قد غيَّبت الكثير من اطمئنانه، فظنَّ الابن أن مفعول التهديد جاء بطامةٍ كبرى، فسأله والده: أراكَ اليوم في حالةٍ كل ما فيها أشدّ وطأة والألم النفسي ظاهرٌ وبيّنٌ، فردَّ والده: ألم تقرأ جرائد اليوم؟ فالشركة الأم سحبت التوكيل وألغت تصدير البضاعة.

أجابه الابن: وهل تأكدتَ من صحةِ الخبر من الوكيل نفسه، ومَنْ وراء الخبر؟ أجابه والده: إنَّه خبرٌ مؤكدٌ طالعتنا به جرائد اليوم، فقال ابنه: كل هذا صحيح، لكن مَنْ وراء هذا الخبر! وكان لهذا السؤال أثرٌ نبّه والده إلى حقيقة التنافس بين الشركات، وأنَّ الخبر لم يشر إلى المصدر.

ومع ذلك لم يطرأ على حالته النفسية تغيير، واستأذن الابن لينصرف مردداً نفس العبارة: اللهم ارحمنا من التوافه.

وتمر الأيام والأب في حالة وجلٍ وخوفٍ من كل قادم مجهول، فقرر الابن أن يستشير مختصاً في علم النفس، وبالفعل التقى به وعرض عليه مشكلة والده، وبعد أن استوعب المُعالج طبيعة المشكلة بدأ في إيضاح ما يراه بشأن والده ومعاناته قائلاً: إنَّ المشاكل الواضحة المعالم التي يسبقها توقع مبني على معطيات مؤكدة؛ فمعظمُ الناس يتصدون للحل إذا عجزوا أو تعذَّر الحل يتأجّل الأمر إلى زمن قادم، ولكنَّ الغالب من الأسباب التي تولِّد الضيق والقلق وبعضاً من الكآبة هي توافه الأمور، فمعظمنا بتأثيرها يعاني ويتألم نفسياً ويخاف من المجهول المرتبط بهذه التوافه، فمعظم الأحيان لا يعرف أنها توافه وإن أحسَّ بالضيق والقلق والخوف.

هؤلاء لا منهاج موضوعياً لتفكيرهم وحساسيتهم النفسية لأحداث الغدّ تخضعهم لوهم وتصورات تخلق مثل حالة والدك، ولا تنسَ أنني أتحدث ومن أشرتُ إلى حالته ليس معنا، لم أفحصه أو أسمع منه وما أقوله رأي عام من واقع ما سمعته منك.

إنَّ التوافه من أمور الحياة ومن واقع علاقاتنا الأسرية والاجتماعية تحتل مكاناً من النفس، ومن طاقة التفكير الموضوعي الكثير فتولِّد معاناة وألماً نفسياً قد يشل بعضاً من قدراتنا.

هل أمعنت النظر بتقصٍ وفهمٍ وتأمُّلٍ في قول العزيز الحكيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ألا تلاحظ أن التوجيه الرباني في هذه الآيات البيّنات بدأ بأمرٍ واضحٍ هو (قل).

ثم إنَّ التكرار: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} له دلالة تؤكِّد أن الوسواس شرٌ مدمرٌ وصفته خنّاس أي لا يُرى فيأخذ طابع الإيحاء من المصدر الذي تشير إليه الآيات، وبتكراره يتحوَّل إلى إيحاء ذاتي يصدقه الإنسان فيمارسه على نفسه فيخلق من شديد المعاناة النفسية ما يشل القدرة ويُنغِّص الحياة.

اذْكُرْ هذا لوالدك، ولدي صيغةٌ لإيحاءٍ ذاتي نفسي أعدَّها المرحوم الأستاذ محمد فتحي رئيس رابطة المعالجين النفسيين من غير الأطباء في مصر، وهذا نصها: (إن صحتي -بإذن الله تعالى- كل يوم أحسن عن يوم من جميع الوجوه نفسياً وفكرياً وجسمياً، وامتلأ صدري سروراً وانشراحاً وطمأنينة، وامتلأت نفسي وامتلأ جسمي وقلبي صحة وعافية وقوة ونشاطاً وانتظاماً، وامتلأ فؤادي جرأة وشجاعة وإقداماً وتقوى وثقة بالنفس واطمئناناً، واعتماداً على الله وعلى نفسي في جميع الأمور.

وأنام -بإذن الله تعالى- في كل ليلة بملء جفوني نوماً طبيعياً قرير العين هادئاً عميقاً مريحاً مقروناً بالصحة والعافية وهدوء النفس والفكر والبال.. وأقوم في كل صباح وأنا في غاية القوة والنشاط والانشراح، وأمضي طول يومي سواء في يقظتي أو نومي وأنا في أحسن حالٍ من الصحة وهناءة البال.

وأصبحت ذاكرتي -بإذن الله تعالى- حادة قوية، وإرادتي حديدية، وروحي المعنوية مرتفعة عالية، وشخصيتي قوية متكاملة.

أستطيع أن أحصر فكري في كل ما أقرأه أو أكتبه أو أسمعه أو أصنعه أو أفكر فيه من الدروس والمحاضرات والعلوم والفنون والصناعات وشؤون الحياة كافة حصراً دقيقاً تاماً، بكل سهولة وارتياح، وأُعبِّر عن كل ما يجول في نفسي من الخواطر والأفكار والذكريات أياً كانت تعبيراً غاية في الدقة والإتقان بطلاقة قلم وفصاحة لسان).



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6383 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد