Al Jazirah NewsPaper Monday  07/07/2008 G Issue 13066
الأثنين 04 رجب 1429   العدد  13066

إرهاب الدولة - 1 -
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

قبل الحديث عن إرهاب الدولة تحسن الإشارة إلى عدة أمور:

أول هذه الأمور أن الإرهاب، الذي يتفق على تحديد معناه المنصفون من عقلاء البشر، ظلم كبير. والظم أمر حرَّمه الله- سبحانه- على نفسه وجعله محرَّماً بين خلقه من الناس.

وقد يبدو للمتأمل في تراث أمتنا الشعري بالذات ما يوحي بأن الظلم صفة غالبة لدى البشر. فالشاعر الحكيم، زهير بن أبي سلمى، يقول في معلقته المشهورة:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه

يهدَّم ومن لا يَظلِم الناس يُظلَم

والذود عن الحياض بالسلاح - إذا لم يكن هناك بدٌّ من استعماله- أمر مشروع. لكن من غير المقبول، أو المسلَّم بصحته، أن يُظلم من لا يَظلم الناس، كما قال ذلك الشاعر. ومن الواضح أن ما أملى عليه أن يقول ما قاله هو أنه كان يعيش واقعاً طابعه الصراع حول موارد المياه ومواطن الكلأ.

ولم يكن أبو الطيب المتنبي، الذي طبّقت شهرته الآفاق وما زالت تطبّقها، إلا مؤكداً لما قاله سلفه زهير من كون الظلم صفة ملازمة للإنسان يقول:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلَّه لا يظلم

ومن أمثال عرب وسط الجزيرة العربية الشعبية مثل يقول: ما يخلي الظلم إلا عاجز.

وثاني الأمور أن من هذب الإسلام نفوسهم ضربوا أمثلة نبيلة رائعة في التعامل مع الآخرين. ومن أوضح تلك الأمثلة ما حدث في مدينة القدس، فكَّ الله أسرها وطهرها من دنس الصهاينة المحتلين لها، فحين استولى عليها الفرس في صراعهم مع الروم نهبوها، وأحرقوا كنائسها، وفتكوا بأهلها تقتيلا. ولما غلبهم الروم، في بضع سنين، نهبوا تلك المدينة، وقتلوا من كان فيها من الفرس واليهود، الذين كانوا قد ساعدوهم في الجولة الأولى من الصراع بين الجانبين، وذلك لعداء اليهود للنصارى ولتملك صفة الغدر لدى أكثرهم.

لكن لما دخل العرب المسلمون القدس منتصرين في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لم ينهبوا ممتلكات، ولم يقتلوا أحدا؛ بل أبرموا مع سكانها ما سمي بالعهدة العمرية، التي من يقرأها لا يتصور أن الذي كتبها كان المنتصر. ولما اجتاح الفرنجة، أو الصليبيون، تلك المدينة قتلوا من كانوا فيها من المسلمين. وبعد أن استعادها المسلمون - بقيادة صلاح الدين الأيوبي- لم ينتقموا من خلف أولئك الذين ارتكبوا جرائم فظيعة بحق أسلافهم من سكانها، بل عاملوهم معاملة حسنة نبيلة.

وثالث الأمور أن الغربيين في العصر الحديث تملكت نفوس أكثر قادتهم نظرة الاستعلاء والفوقية تجاه الآخرين بحيث اتصفت معاملتهم للشعوب الأخرى كما لو لم يكونوا بشرا. ولعل للجذور الثقافية الخاصة بهم أثراً في ذلك؛ إذ كان أرسطو-مثلاً- يعد الشعوب الأخرى عبيداً بالطبيعة. ولذلك ارتكب المستعمرون الغربيون أبناء تلك الثقافة أبشع الجرائم في عمليات احتلالهم للأقطار التي احتلوها، وبعد ذلك الاحتلال.

ورابع الأمور أن اتصاف قادة الغربيين بما ذكر سابقاً لا يعني أنه لا يوجد بين مفكري الشعوب الغربية، أوربية وأمريكية، وجماهيرها أناس يقفون مع الحق. وأكبر برهان على هذا مواقف مفكرين وغيرهم من بريطانيا، التي رعت حكومتها الكيان الصهيوني ربيباً محظياً في فلسطين، وأمريكا التي احتضنت إداراتها المتعاقبة هذا الربيب وما زالت تحتضنه ولا تعصي له أمرا.

وخامس الأمور مدلول كلمة (الإرهاب) وأصلها اللغوي في العربية إدخال الرهبة في نفوس الآخرين، ومن هذا المعنى اللغوي ما ورد في القرآن الكريم كقول الله تعالى: {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهَِ}، وقوله: { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}. على أن اللغة مثل كل كائن اجتماعي حي تكتسب مفرداتها معاني جديدة يمليها تطور الواقع الاجتماعي بأبعاده المختلفة. لذلك أصبحت كلمة (الإرهاب) مصطلحاً يختلف المراد به وفق مفهوم من يطلقه، أو - بالأحرى- وفق إرادته من إطلاقه. وهذا هو السبب الجوهري في رفض الدول القوية المتحكمة في شؤون العالم بدرجة كبيرة - وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ذات الحول والطول- أن يعقد مؤتمر دولي يتفق فيه على معنى محدد لمصطلح (الإرهاب). ومن الواضح أن الهدف من هذا الرفض هو أن يظل المعنى عائماً يفسره القوي وفق ما يشاء، وليس أمام الضعيف المنحني أمام جبروته إلا أن يسايره اقتنع أو لم يقتنع.

ومن المعروف أن الدول المستعمرة - وفي طليعتها شراً الدولة الصهيونية المحتلة لفلسطين - تصف الحركات المقاومة لاحتلالها بأنها حركات (إرهابية) لكن عندما كان الأفغانيون يقاتلون القوات السوفيتية، التي دخلت إلى بلادهم مناصرة للنظام الشيوعي فيها، سماهم الإعلام الغربي، والإعلام السائر في ركابه (المجاهدين). بل إن هذه الكلمة دخلت اللغات الغربية لفظها العربي. وبعد انسحاب تلك القوات من أفغانستان، ثم تفكك الاتحاد السوفيتي، اطمأنت أمريكا كثيراً، وراحت تعمل للقضاء على أي قوة يمكن أن تصبح حجر عثرة في سبيل هيمنتها على العالم. لذلك بات أمراً محتماً أن تكون المواجهة المقبلة مع المسلمين، وفي مقدمتهم العرب. ولذلك، أيضاً، بقيت هذه الدولة دون حراك أمام القصف الروسي المروع للعاصمة الشيشانية.

وفي البوسنة والهرسك كانت تعلم ما كان يرتكبه الصرب ضد المسلمين هناك من جرائم شنيعة، لكنها تباطأت في اتخاذ موقف حازم حتى أتم الصرب أكثر ما كانوا يودون إتمامه من مجازر. ولقد اعترف الرئيس نيكسون بذلك عندما تحدث عن مذبحة السوق الشهيرة قائلاً: (إنها حقيقة مؤلمة محرجة، لكن لا يمكن إنكارها، لو كان سكان سراييفو في أغلبيتهم مسيحيين أو يهوداً لما كان العالم المتحضر -هكذا وهو تعبير غربي شوفيني يدل على رسوخ الشعور بالفوقية والاستعلاء- سيسمح للحصار أن يصل إلى الحد الذي وصل إليه عندما كان الصرب يقصفون سوق سراييفو المزدحم بالسكان في مثل هذه الحالة سيكون الرد لدى العالم المتحضر سريعاً، وسيكون محقاً في ذلك).

ولقد عبر كاتب هذه السطور عن تلك المأساة، وموقف أمريكا بالذات منها، بأبيات قدمت بها الرئيس البوسني علي بيقوفيتش، رحمه الله، في حفل منحه جائزة الملك فيصل العالمية قائلاً:

ومفسِِّر القانون وفق مزاجه

يرنو أصمَّ إلى الجرائم أبكما

ويمارس التسويف خطة بارعٍ

حتى يُراق دم البريء ويعدما

ما كان أسرعه ليردع ظالماً

لو لم يك المظلوم شعباً مسلماً

وقلت في أبيات أخرى:

هل يفرض المجلس الدولي سلطته

إلا إذا استهدف الإسلام والعربا؟

لو أن شعب سراييفو وقادتها

من اليهود تلظَّى بطرسٌ غضبا

وأُرسِل الجيشُ تلو الجيش منتقما

ممن طغى واستباح العرض واغتصبا

يتبع

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد