Al Jazirah NewsPaper Saturday  12/07/2008 G Issue 13071
السبت 09 رجب 1429   العدد  13071
فشل المنهج العلماني (3-4)
عبدالله بن محمد السعوي

الداعية العلماني مع أنه جاهل، والجهل متغلغل في ذاته، ينحت في مختلف أبعادها، ويوجه سلوكياتها، إلا أنه مع ذلك يقدم نفسه بوصفه ممثلاً للمعرفة، ولايعي - بفعل عدم وجود وعيه الذي لم يتشكل بعد - أنه المسوق التجهيلي لأفكار الجهل.....

.....والمجسد له في أسوأ قوالبه المقززة!! إنه يقدم نفسه بوصفه (انتلجنسيا) وصاحب رسالة حضارية، وقد يبدو لدى بعض البسطاء، صاحب رؤى إستراتيجية، ومبدع أفكار نوعية، لأنه يكثر من التنظير، ويطيل هذراً في التسويق لثوابته الأيديولوجية، ولكنه في الحقيقة والواقع ليس إلا ناقلاً لأفكار غيره، مروج المتبنيات سواه، مردداً وبآلية بلهاء لرؤى تتصادم ومقتضيات سياق واقعه! هذا الزخم التنظيري من قبل الداعية العلماني لا ينم عن قدرات معرفية عليا بقدر ما يدل على ببغائية اجترارية تنتظمه في العمق، وتطبعه في مجمل سلوكه العام!؛ الجهل في خطاب الداعية العلماني حقيقة متجلية لا تخطؤها عين منصف، فهو يجهل طبيعة الأفكار التي تنسجم مع فطرة الإنسان، وتتلاءم مع آلية تكوينه، إنه خطاب لا يعي كينونة الفرد، ولا يروي ظمأه، ولا يشده إلى مصيره، وهذا هو ما يجعل الإنسان ممثلاً بذلك القطاع الجماهيري العريض يشمئز من الداعية العلماني، ويشيح بوجهه عنه، الجماهير الحاشدة تزورّ عنه، تستدبره، تلفظ متبنياته، وفي الوقت ذاته، تتلهف متجاوبة مع نقيضه، فتتساوق مع طرح الداعية الإسلامي القادر على مخاطبة مناطق اللاشعور في الإنسان، وتصطف لتأييده، على نحو يثير حفيظة الداعية العلماني، الذي كان يتوقع أن يكون محل ترحيب اجتماعي، فإذا هو بالعكس يعامل بنقيض قصده، حتى بات موضع سخرية جماهيرية، ومحل تندر شعبي!، الداعية العلماني كان يتوقع أنه سيلاقي قبولاً منقطع النظير، فإذا بالجماهير تنكره، تركله، تستقزمه، وتحيله إلى نكرة لا يذكر، وإن ذكر ذات تسلية مّا، فليس إلا في سياق الذم، أو في سياق الطرفة المضحكة بالمجان!؛ الداعية العلماني كثيراً ما ينوح نوح الثكالى، نادباً حظه، ساخطاً على واقعه، متهماً الظروف بمحاربته، ثائراً على مجتمعه، لأن الجماهير شانئة لطرحه، قالية لمنهجه، تكابد شعوراً حاداً بالغثاء بمجرد ذكر اسمه، مما حدا بها في نهاية الأمر إلى فرض عزلة قسرية عليه، فالجميع يتجافى عنه وجدانياً حتى أقرب الناس إليه، مما جعله يعيش إثر ذلك غربة نفسية قاتلة، ولدت لديه حقداً دفيناً على مجتمعه؛ وجعلته عدائياً إلى درجة رهيبة، استحال على إثرها إلى إنسان مشوه، لا يتوانى عن استدعاء الألفاظ البذيئة - التي هي من خصائص العقل الطفولي - حتى مع أقرب الناس إليه!. الداعية العلماني بوصفه ظاهرة مرضية، يفسر الظواهر تفسير رغبوياً، فهو لا يعاين الأشياء على حقيقتها، وإنما كما يريد لها أن تكون!، ولذلك فهو يفسرها كما يشتهي وكما يطيب له، ومن هنا فهو يفسر هذا الاحتقار الجماهيري له، والتقزز من طرحه، بأنه مؤشر على نخبويته، ودليل على تميزه، إنه يلجأ إلى هذا التفسير على سبيل التعويض النفسي!، فهو يهرب من واقعه المزري - الذي أنهك نفسيته - إلى سبحات الخيال، فيعيش في أحلام اليقظة بوصفها الملاذ الوحيد الذي يوفرله الأمان!، مثله كما الشخص الذي يتعاطي العقاقير المخدرة، للانفصال عن عالم الوعي، وبالتالي الهروب من واقعه الكسيف الكئيب!. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو السر في كون الداعية الإسلامي يخلب الألباب، ويسبي العقول، بينما الداعية العلماني، يراوح مكانه، يترنح، وغير قادر على الانتصاب واقفاً على قدميه؟! والجواب هو أن الداعية الإسلامي يحظى بتأييد جماهيري واسع، لأنه يتوافر على وعي فاقه لإستراتيجية خطابه، سر نجاحه، ومكمن تألقه، يتمثل في تبشيره بالقيم الإنسانية العليا، هذا الداعية كفاعلية تنويرية، عانق النجاح لأن القضية الأولى لديه هي قضية الإنسان، لأن الإنسان هو محور اهتمامه، الإنسان يحضر في طرحه بوصفه قيمة ذات بعد مركزي، يحضر بوصفه منطوياً على عدة أبعاد ليس المادي إلا واحداً منها، الإنسان في هذا الطرح يعامل باعتباره خليفة يقيم الدنيا، ويعمر الكون، وينشئ معالم الحياة، أما في الطرح العلماني فالإنسان ممتهن الكرامة، منتهك الفضيلة، مختزل الأبعاد، مصادر في عنصره الإنساني!، بقدر ما يحضر الإنسان في هذا الطرح كشعار، فهو يتوارى كحقيقة واقعية، بقدر ما يجري الكلام الشعاراتي عنه، بالقدر ذاته يجري نفيه، والحط من قدره، وهكذا، وببساطة متناهية، يضحى بالإنسان، تحت شعار الإنسان. الداعية العلماني يفشل لأن عقليته مستلبة، فهو يقدس الآخر، يذوب فيه، يروج لأفكاره، يرهب العقول عبر تعظيمه، وأسطرة قوته!!، بعكس الداعية الإسلامي الذي يزيح الرهبة من الآخر، ويتصدى لأي وصاية فكرية تنبعث منه، وينظر إليه على النحو الموضوعي.

الداعية العلماني يقوم خطابه على الإقصاء، كشرط أولي تنهض عليه مجمل تناولاته، خطابه خطاب عنفي حتى ولو زعم سوى ذلك، بل حتى ولو تظاهر بنقيضه، فهو ينطوي على ما يدين سواه به!؛ التعصب الحاد عنصر متأصل في أغوار وعيه، متجذر في كينونته، يتأبى على الزحزحة، ويتمنع على التحوير؛ المتلبس بالفكر العلماني وخصوصاً إذا كان من حملة الأقلام وأصحاب الطرح التنظيري - لا لبراعته في الكتابة والتنظير وإنما لاغتصابه موقع تأثير أكبر بكثير من حجمه المعرفي، - لا ينطلق في طرحه من منطلق علمي فالعلمية كحقيقة يجب استصحابها، لازالت مؤجلة في وعيه المحكوم بالمنطق العاطفي الثاوي في أعمق أغواره؛ التأمل في البنية العميقة لهذا الخطاب يسفر عن تأصل سمة وجدانية يندفع على إثرها لاستدعاء مفردات ذات طابع هجائي لا تفصح إلا عن شخصية تعاني من تأزم سيكولوجي في منتهى الحدة، البعد العلمي هو الغائب الأكبر عن هذا الخطاب فهو معاد للعلم ولذا فعندما تدخل في مناظرة مع الداعية العلماني وتناقش أفكاره وبطريقة علمية، وتقارب عناصر التأزم في خطابه اللاهث من حدة الانفعال العاطفي، فإن هذا باعث كاف لإثارة توتره، وافقاده توازنه الكينوني، إنك بذلك تستفزه، تعريه، تخرجه عن طوره، تفقده رشده، تجعله يضرب أخماساً في أسداس!!، لأنه لا يستطيع التعاطي بالمثل فهو جاهل، والجهل مكون رئيس من مكوناته، عندما تعييه الحيلة وتخونه قدراته المتهالكة يلجأ إلى العنف القولي بحسبه الخيار الوحيد الذي لا يعبر عن وجوده إلا من خلاله!!؛ الداعية العلماني يستبد به الخوف، وتتلبسه حالة من الذعر، فهو جبان، يعجز عن الدخول في مناظرة ذات طابع علمي، إنه يخشى أن يخوض مواجهة قوامها العلم والمعرفة واتساق المنطق الداخلي، لأنه لاشك ستنكشف سوأته المعرفية، وسيخسر الرهان، لأنه يروم ولوج ميدان لم يؤهل له، هذا أولاً، وثانياً، لأنه لا يعتمد على العقل والعلم، وقوة المنحى الاستدلالي، بقدر ما يعتمد على قوة عاطفته المتأججة، وإذا أردت أيها القارئ الكريم، أن تعرف وبشكل واضح طبيعة هذه العاطفة، وتعاين بعمق مستوى حضورها، فاطلع على أي طرح علماني، وخصوصاً إذا كان في سياق الرد على طرح إسلامي وستجد أن الجانب العقلي - هذا على افتراض وجوده - يتضاءل إلى درجة الخفوت، وفي المقابل ستجد أن المحركات العاطفية، وشخصنة الردود، وإرهاب المخالف، واغتيال المعرفة، وسفك دم الحقيقة، هي التمظهر الأبرز لهذا الطرح العاطفي في الصميم!، سوف تلمس عن كثب أن الثورة العاطفية، والانتفاضة الوجدانية، هي الملمح الأساس الذي يشكل معالم هذا الخطاب، على نحو يخيل على إثره لبعض القراء البسطاء، أن ثمة انتصاراً معرفياً يجري تسطيره على الورق!، ولا يدرك هذا القارئ بفعل بساطة تفكيره أن العلمية هي الضحية الأولى لهذه العاطفة المشتعلة في الأعماق!؛ إنه - أي الداعية العلماني - لكي ينتصر على غيره، فهو يعمل لاهثاً على تشويه صورة ذلك الغير، واستخدام كم كبير من المفردات الإقصائية ضده، باعتبار ذلك يحقق له هدفين: أحدهما، الظهور- أمام القارئ العفوي البسيط - بمظهر البطل المعرفي الذي حقق انتصاراً لا يضارع!. الثاني: أنه بهذا الزخم من الترهلات الإنشائية ذات المنحى الإقصائي، يغطي انتكاسته المعرفية، ويتستر عليها، مع أنه كان من المفترض، من الأصل، أن يدير المعنى في ذهنه مرات قبل أن يسود به بياض صفحاته لئلا يزرى عليه، كان من المفترض، أن يعي قدر نفسه، ويعرف من هو، فلا يتجشم وعورة الدخول في مشاكسات أكبر وبكثير من حجمه الضئيل!، وكان عليه أن يعمل من الأساس، على ستر جهله بصمته، وعدم فضحه بنطقه!!.

الداعية العلماني، عندما يمارس الإقصاء ينفق وسعه لكي يظهر بمظهر المتلبس بالغيرة الاجتماعية والذائد عن حرية المجتمع، وأنه يلعب دور المجاهد النضالي الذي تُستفز مشاعره بكل ممارسة تحد من انطلاقة المجتمع أو تحسر من حدود حراكه، ولهذا يبدو الداعية العلماني عبر مقالاته ومؤلفاته، حاداً في آرائه، مصادماً في أطروحاته، شديد الدوغمائية في تصوراته، يحاول الواحد منهم الظهور بمظهر الثائر الذي يملك من الشجاعة ما يحفزه على أن يضرب بالأعراف الاجتماعية عرض الحائط، وأنه لا يكترث بآراء العلماء، ولا يأبه باجتراح المحظورات القانونية.إذا أراد أحدهم أن يوسع رصيد شهرته، وأن يسير ذكره على كل لسان، وأن يتكرر اسمه على كل مسمع فليس أمامه إلا طريق واحد وهو سب الإسلام، والنيل منه، والإساءة إلى المنتسبين إليه، إذا أخفق أحدهم في الحياة، ولم ينجح في المجال الذي يرغبه، وفشل في لفت الأنظار إليه، وخذلته قدراته - هذا إن كان لديه قدرات! - فعجز عن تحقيق الشهرة - التي هي منتهى طموحاته - بالوسائل المقبولة، هنا لا يجد أمامه إلا طريقاً واحداً هو مخالفة المجتمع، على طريقة (خالف تذكر)، يخيل إليه أن تحقيق الإبداع يقاس بمطلق المخالفة للمجتمع، وليس بالقيمة الفكرية التي تنطوي عليها هذه المخالفة، الشعور الحاد بالنقص يحدوه إلى اعتناق أفكار شاذة حتى يكون له نوع من خصوصية الذات وتفردها!، وهذا ما يحمله على مناكفة المجتمع، والسخرية بأفراده، والاستهتار بتقاليده، ومصارعة أعرافه، والتطاول على علمائه، والتقليل من قيمتهم، وزعزعة الثقة باجتهاداتهم، وهكذا فالإرهاب اللفظي يتبختر في أعلى صوره هنا، الروح الوحشية في مقالاتهم تهيمن متبرجة في أعنف ضروبها!، ثمة بشاعة مقالية تضرب بأطنابها. السلوك الإقصائي المسعور هو الآلية المعتمدة هنا.

الداعية العلماني يركز دائماً على مخالفة المألوف ومناكفة السائد ومن ثم ممارسة البعد الوصائي على المجتمع وبالتالي فرض المتبنى الأيديولوجي المراد!.



abdalla-2015@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد