Al Jazirah NewsPaper Sunday  13/07/2008 G Issue 13072
الأحد 10 رجب 1429   العدد  13072
معنى الصيف
د. أحمد بن صالح بن إبراهيم الطويان

لقد كان الناس في عصر مضى لا يفرقون بين صيف ولا شتاء، كل الوقت عمل دءوب ولكلٍ عمل وجهد يبذلونه بحثاً عن لقمة العيش، فلم يكن في قاموسهم إجازات ولا سفريات ولا سياحة ولا مهرجانات ولا فعاليات.

ولم يكن السفر يعرف إلاّ للعبادة أو التغرُّب في الأوطان للعمل والكد وتحمُّل المشاق ضرباً في مناكب الأرض ابتغاء ما كتب الله من الرزق.

ولم يكن الواحد منهم يفكر براحة ولا طمأنينة ولا بإجازة بل يستغل وقته لئلا يفوته ما سعى إليه.

واليوم تبدّل الحال وصار الصيف له معنى آخر يتسابق الناس بقضائه ويتباينون بقطعه.

صور متعددة يجمعها الإحساس بالفراغ والبحث عن المتعة والسياحة مع وفرة الرزق ورغده، وأمن في الأوطان وصحة في الأبدان.

وإنّ التباين والاختلاف في حال الناس في الصيف يختلف باختلاف تفكيرهم وتربيتهم واهتمامهم، فالبعض قد حزم أمتعة السفر وانطلق ليقضي صيفاً بعيداً عن وهج الشمس وحرارة الجو، اختار المكان ليحلو له الزمان، ولكنه أخطأ في الاختيار، ذهب بنفسه وفلذات كبده ونسائه ليرتمي في أجواء كافرة ومجتمعات داعرة، أو مجتمعات متحلّلة تشجع على الرذيلة وتحارب الفضيلة.

ذهب ليقي نفسه وأهله حرارة الصيف ولكنه أحرق قلبه بنار المعصية، وفتنة الشهوة، ومستنقع الرذيلة، ناهيك عمن كان هدفه تلك الأوبئة عياذاً بالله من ذلك.

والبعض الآخر يرمي بنسائه في تلك المجتمعات مع خلع لجلباب الحياء والحشمة وتهتك وسفر بدون محرم، وتعرض للبلاء والفتنة.

والبعض يرسل بأبنائه لتعلُّم اللغات، ولم يفكر بالحفاظ على عقيدتهم وأخلاقهم، ولم يبال بعفافهم ودياناتهم.

ولكنها والله النعمة حين تستغل بما يضر ولا ينفع، فلو كان مثل هؤلاء لا يجدون ما يقتاتون هل سيقطعون الأرض شرقاً وغرباً بحثاً عن الاستجمام.

إنها والله نعمة الصحة فلو كان هؤلاء قد ابتلوا بالمرض لم يفكر أحدهم إلاّ بما يكشف عنه الضر.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).

وإن تلك الأموال التي تبذل في ذلك الطريق هي دعم لأعداء الله وتقوية لهم علينا، فلنعي دورنا فلئن كنا نبحث عن المتعة واللذة فإخوان لنا قد اكتووا بالحروب والقتل والتشريد والاضطهاد، وذلّوا بعد العز وتفرّقوا بعد الاجتماع وضعفوا بعد القوة.

وإنّ تلك المليارات التي تهاجر في الصيف ويستفيد منها أعداء الملّة لتكون سلاحاً يوجه إلى إخواننا.

وإنّ البعض حين يفكر بالسفر لا يفكر إلاّ بالمال، لا يفكر بحفظ دينه وأخلاقه، لا يفكر بتربية أولاده فتجده يبحث عن الأقل، ولو كانت تلك البقعة فيها من الانحلال وانتشار الجريمة والاختلاط والتبرُّج والسفور ما فيها. وما علم المسكين أنّ دينه أغلى ما يملك فكيف يعرضه للخطر، فكيف تستأنس نفس مسلم برؤية المنكرات عياذاً بالله من ذلك.

وإنّ من إنكار المنكر أن لا تجالس صاحب المنكر ولا تساكنه، فكيف بمن يذهب للمنكرات وأهلها ويقول إني لا أتأثر ولا أهتم بذلك.

فاحذر أُخيَّ فليست المتعة المناظر الحسنة ولا الأجواء الطيبة فحسب، بل المتعة سعادة القلب بالطاعة ولذّة الإيمان وبرد اليقين وطمأنينة النفس بذكر الله تعالى.

فكر بنفسك ... ذهبت ؟ وشاهدت ؟ الغريب والعجيب !! وتمتّعت باعتدال الأجواء ثم ماذا.؟!

لقد عرضت نفسك وأهلك وأولادك للفتن، ويكفي من الفتن الأنس بالمنكرات واستسهالها.

ثم ماذا .. هل قرّبك هذا السفر إلى مولاك .. هل زادك سفرك طاعة واعتباراً واتعاظاً.

فإنّ السير في الأرض للنظر والاعتبار عبادة {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (11) سورة الأنعام .. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ... ...} وقال تعالى {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ }45 {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (46) الحج) .. صدق الله لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب فلا تعي ولا تنزجر.

أليس الذي مدّ الأرض وسلك فيها السبل وسهّل التنقل على ظهرها .. أليس الذي أنعم عليك للسير على ظهر هذه الأرض بكل سرعة وراحة .. أليس الذي سخّر لك أن تحمل في الجو وتنتقل هو الله جل جلاله .. هو الذي أنعم عليك بنعمة الصحة والمال والفراغ .. فلا تجحد نعمة الله عليك فإنه قادر عليك، قادر على أن يسلب منك النعمة فإنّ غيرك لا يفكر في الصيف إلاّ بلقمة يضعها في فيه وفي بطون أولاده، وأنّ قمة المتعة عنده أن يجد من الطعام ما يملأ بطنه وبطون أولاده.

والبعض الآخر لا يفكر في الصيف إلاّ بأمن وأمان وراحة واطمئنان .. قد ملأ الخوف قلبه فلم يهدأ له بال ولم يقر له قرار.

والبعض الآخر لا يفكر في الصيف إلاّ بالعافية والصحة يتقلّب على سرير المرض ليس في قلبه من متع الدنيا شيء إلا التفكير بالصحة.

يقول أحد السلف إذا عرض عليك بلاء فقدم مالك دون نفسك، وإذا عرض عليك بلاء فقدم نفسك دون دينك .. فكيف بمن يشتري البلاء والفتنة بماله .. إنّ هذا لهو البلاء المبين.

ومن الناس من أنعم الله عليهم فاستغلوا الأوقات بما يفيد وينفع، فسخّروا الجهود لحفظ كتاب الله وطلب العلم والسفر في طاعة الله للعمرة والزيارة وصلة الأرحام، والاستجمام في أجواء طيبة محافظة.

لكن الوصية للجميع أن يحافظوا على تعاليم الإسلام، ويحفظوا النساء والمحارم والأولاد من ضياع الوقت والتساهل بأمر المعصية والاستهانة به.

وليكن الجميع من أسباب حفظ الدين والأخلاق بالتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإنّ المسلم الحق هو الذي يعيش لهدف في الحياة ويسعى لتحقيق الهدف، وإنّ هدف كل مسلم تحقيق العبودية لله عز وجل والسعي في مرضاته.

وعلى هذا يكون كل اهتمامه في أوقاته في فراغه وشغله هو السعي لتحقيق هذا الهدف والمحافظة على نفسه ألا ينقطع عن تحقيقه مهما كانت الظروف عن ذلك. وإنك لتعجب من استماتة كثير من الناس في تحقيق أهداف الدنيا والسعي لتحصيلها. ولكن هدف الآخرة عندهم لا اهتمام فيه.. ؟!. وقد يتخلى عن أمر الآخرة لتحقيق مآرب الدنيا ومصالحها.

ولنعلم إنّ هذه اللحظات والساعات والأيام هي العمر، فكلما ذهب يوم ذهب جزء من الحياة قال الحسن رحمه الله (يا ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يومك ذهب بعضك).

وإن تلك القوة والصحة كلما ذهب يوم قربت إلى ضعفك وهرمك وشيبك.

نفرح بالأيام نقطعها

وهي إلى الموت تدنينا

فلتكن كلما نقص عمرك زادك عملك ولا تكن ممن ينقص عمره وعمله .. ويلقى الله مفلساً.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد