Al Jazirah NewsPaper Tuesday  15/07/2008 G Issue 13074
الثلاثاء 12 رجب 1429   العدد  13074
لقاء لم يتم مع المسيري..!
حسن بن فهد الهويمل

كنت في القاهرة مشاركاً في المؤتمر الدولي الخامس لقراءة المشروع النقدي للدكتور عبدالعزيز حمودة - رحمه الله -، وكان من المقرر أن يكون للمفكر العربي الكبير عبدالوهاب المسيري كلمة في حفل الافتتاح؛ إذ تم الاتفاق معه للمشاركة بوصف المؤتمر من تنفيذ مكتب رابطة الأدب الإسلامي العالمية بالقاهرة، ولقد طبعت مشاركته في أوراق المؤتمر،

ويوم الافتتاح صباح الثلاثاء الموافق 2-7- 2008م اعتذر المقدِّم عن حضور المسيري لعارض ألمّ به، وفي جلسة الخميس الصباحية أعلن رئيس الجلسة عن وفاة المسيري؛ فكان النبأ مؤلماً، وإن لم يكن مستبعداً؛ فالرجل ظل يعاني من سرطان الدم طوال سبع سنوات، ولأنه معارض سياسي عنيف ويرأس حركة (كفاية) فقد ظل مهمشاً من قبل المؤسسات السياسية والإعلامية، ولم تبادر لعلاجه أثناء معاناته فيما استقبلته أرقى مستشفيات المملكة تقديراً لإسهاماته الفكرية والسياسية، وأحسب أنه كان عنيفاً في معارضته وفي تطلعه للإصلاح السياسي، ولست معنياً في هذا الجانب؛ فذلك شأنه وتقديره، وكل الذي يهمني الجانب الفكري في حياته وموقفه المتميز من الصهيونية العالمية، حتى لقد توقع البعض أنه دفع حياته ثمناً لهذا الموقف، وبخاصة بعدما أنجز موسوعته العلمية عن (اليهود واليهودية والصهيونية) في ثمانية مجلدات ضخام، والتي أمضى ربع قرن من حياته لإنجازها بهذا الحجم والعمق والشمول، ولربما كانت المشروع الأهم في حياته الحافلة بجلائل الأعمال، وبها أصبح من أعلام الفكر المعاصر.

والغريب أن جهوده في تعرية الصهيونية لم تقتصر على الموسوعة بل أنجز عدداً من الكتب؛ الأمر الذي جعله من ألد خصوم اليهودية والصهيونية.

ولأني كنت يوم وفاته في القاهرة بعيداً عن حقله في مكتبتي؛ فقد اضطررت إلى التأخر في المشاركة في تأبين فقيد بحجمه؛ إذ ما كنت لأقتصر على التّفجُّع والثناء، ولا سيما أنه قد تعرض للتعتيم الإعلامي، ولم يكن حاضراً إلا من خلال كتبه، أو عند المهتمين بالموضوعية والمعرفة والموسوعية، على أن محبيه والمعجبين بجهوده قد كرموه في حياته بحيث استكتبوا عشرات الأدباء والإعلاميين والسياسيين، وذلك بعد صدور موسوعته الهامة، التي نفدت طبعتها الأولى، في وقت قياسي، على الرغم من أنه أخرجها مختصرة في مجلدين للعامة، والكتاب التكريمي يقع في مجلدين كبيرين تحت عنوان (في عالم عبدالوهاب المسيري حوار نقدي حضاري) والكتاب بجزءيه ينيف على ألف ومائة صفحة، وهو عبارة عن دراسات لدراساته واتجاهاته الفكرية تظافر على إنجازها لفيف من الأدباء والمفكرين المعاصرين له، تناولت الدراسات في الجزء الأول الإطار النظري والموسوعة، فيما تناول المجلد الثاني دراسات وشهادات، وقد أسهم في كتاب التكريم أكثر من ثمانين كاتباً من مختلف بقاع العالم ومن كل التيارات الفكرية والأدبية، ومن المملكة اشترك الأستاذ الدكتور سعد البازعي الذي اختار المدخل السِّيْري، مشيراً إلى عمله بجامعة الملك سعود أستاذاً في قسم اللغة الإنجليزية في المدة من عام 1983 - 1988م.

والمسيري على الرغم من إغراقه في دراسة الفكر الصهيوني وتاريخه كان له اهتمام في الفكر السياسي، وله إسهامات متميزة، لعل من أبرزها كتابه (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) في جزءين كبيرين، وأحسبه من أفضل المستوعبين والمتحدثين عن هذه النزعة المزعجة التي شغلت المشاهد كلها وفرقت الأمة وزلّت بها أقدام وضلت بها أفهام، ولم يحظ غيرها بما حظيت به، لكنها ظلت أكثر غموضاً واحتمالاً لمزيد من الاختلاف، ولا سيما أنها كانت المادة الرئيسة للحركات الإسلامية؛ إذ جعلوها مزبلة التاريخ الفكري والسياسي، مثلما كانت الزندقة في العصر العباسي.

واشتغاله باليهودية والصهيونية لا يضارعه فيه أحد، وجماع ذلك الاشتغال كله موسوعته التي سدت فراغاً وأثارت جدلاً وكشفت عن جذور الصهيونية وحررت ما يتعلق ب(البروتوكولات) ويكفي لإيضاح اهتمامه باليهودية والصهيونية تأليفه لأكثر من خمسة وعشرين كتاباً تناول فيها مفهوم الخطاب والمصطلح والأكاذيب والتاريخ والبروتوكولات والحركات الهدامة والسرية والعنصرية والأيديولوجية وأسرار العقل الصهيوني ونهاية التاريخ، وهو في الكتب السياسية والفكرية يعرج على الفكر الصهيوني بوصفه مسهماً في توجيه الخطاب الفكري والسياسي العالمي.

ودراساته التحليلية والوصفية والتاريخية والنقدية تنطلق من ارتباطه بفكره العربي الإسلامي، ومن ثم فإن قراءته غير حيادية وغير بريئة، ولكنه يمتلك مع ذلك الموضوعية والمنهجية والعمق المعرفي الذي قد لا يتوفر عليه غيره ممن آخذهم التجييش العاطفي، والعلمانية بكل مفاهيمها ومراحلها التاريخية والجغرافية الفكرية شغلت المسيري بمثل ما شغلته الصهيونية بوصفها متعالقة مع كل التيارات الفكرية، وميزته كما يشير الباحث التونسي (رفيق بوشلاقه) خروجه من أسرِ الأنماط الفكرية السائدة والمقولات الجاهزة في التعاطي مع هذا المبحث بدرجة عالية من العمق والنقد، والأهم من ذلك إثراء المفهوم بنحت مصطلحات ومفاهيم خاصة، ومحاولة الخلوص من إشكالية التعريف الذي ظل متاهة فكرية.

ولأنه موكل بالفكر اليهودي منه ينطلق وإليه يعود؛ فقد نظر إلى الإنسان بوصفه ظاهرة مركبة معقدة من خلال رؤية إنسانية وبوصفه جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة، وبصفته الفردية وبصفته الجمعية من خلال رؤى أخرى، فقد ربط ذلك كله بالرؤية اليهودية، ولهذا يشير إلى أن الكتاب يحاول تطبيق المنهج التفسيري من خلال نماذج مركبة على ظواهر حضارية مختلفة ومتنوعة مثل الماسونية والرأسمالية ومعاداة السامية والإبادة النازية ليهود أوروبا، جاء ذلك في كتابه (دفاع عن الإنسان)، وحتى حين يتحدث عن اللغة والمجاز، لا من حيث التوظيف الجمالي، وإنما من حيث التوظيف السياسي، فإنه يقحم الصورة المجازية والرؤية الصهيونية للذات والصور المجازية وتفكيك العقل الصهيوني، وكتاب (اللغة والمجاز) دراسة بكر لتوظيف المجاز للأغراض الاستعمارية؛ ولهذا يشير إلى أن دراسة الخطاب السياسي الغربي يكشف عن استخدام صور مجازية كثيرة تعبر عن الرؤية الغربية للعالم، ولكنها تبدو كما لو كانت محايدة، وهو يتجاوز الاستخدام السياسي إلى التوظيف الديني بحيث يكشف علاقة المجاز بالتوحيد ووحدة الوجود.

والمسيري في جدله العنيف مع الفكر الغربي يتوسل بالمنهج الفلسفي وآليته ومن ثم يقل استحضاره للمرجعية النصية الإسلامية، وتفكيك فكره ومنهجه يكشف عن مفكر إسلامي من نوع جديد بحيث لا تضعه بإزاء الغزالي أو القرضاوي من جهة أو راشد الغنوشي أو مالك بن نبي من جهة أخرى. إن يشكل تياراً آخر، إنه يدافع عن الفكر العربي والتراث العربي والاستقلال الحضاري العربي، وهذا الانفتاح الذي لم يصل إلى حد السيلان الحداثي جعله صاحب خطاب توفيقي يتسع لأكثر من تيار، كل الذي يشغله استقلالية الخطاب وتميزه ومحافظته على السيادة وتحركه بندية، ولأنه مستوعب للحضارة الغربية فإنه لا يمانع من التداخل والتبادل، ولكن في حدود المحافظة على الهوية والخصوصية، لا بمفهومها المتعالي والاستغنائي، وتلك رؤية تجعله من أهل الأعراف؛ لأنه يمتلك خطاباً معرفياً يحترم الآخر ولا يذوب فيه، ويتفاعل معه ولا يستكين له، وسواء اتفقت معه أو اختلفت فإنك بحاجة أمسّ إلى مثله، وفكره ومنجزه إضافة لا يستهان بها، وسيكون لتراثه شأن أهم في مستقبل الحياة الفكرية والسياسية، وبخاصة ما يتعلق باليهودية والصهيونية والقضايا الفلسطينية، تلك إلمامة سريعة لم تمتد إلى إسهاماته الأدبية ولا إلى حركته الإصلاحية من خلال مؤسسته التي يرأسها (كفاية).. رحمه الله رحمة واسعة.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد