Al Jazirah NewsPaper Wednesday  16/07/2008 G Issue 13075
الاربعاء 13 رجب 1429   العدد  13075
يارا
عبد الله بن بخيت

بدأت معي هذه المشاعر قبل ما يقرب من خمس وعشرين سنة. زرت في منتصف الثمانينات شلالات نياجرا بكندا. تدفق الماء الهائل وهديره الجبار أشعرني بالرعب ثم تسلل إلى وجداني حتى تحوّلت الشلالات إلى كائن فوق مستوى الجماد. تنامت تلك الأحاسيس حتى أضحى الماء كائناً حياً يتحرك وفقاً لمنظومة أعصاب تبحث دائماً عن وحدتها عبر البحار والأنهار والأمطار. صار صراع الطبيعة في نظري هو صراع بحث الماء عن وحدته النهائية. ثمة شيء غريب يختبئ داخله يحتاج إلى تفسير متيافيزيقي. لم اسمح لهذه المشاعر بالسيطرة الكاملة على تفكيري. فالأشياء لا يمكن النظر إليها من هذه الزاوية. دفعني هذا إلى قراءات عن الفكر الأسطوري وكيف استطاع الإنسان أن يبني منظومة مفاهيم متكاملة تتنافى مع العقل ولكنها تفسر ظواهر كثيرة يعجز العقل البشري عن تفسيرها. لا يمكن تقبل وجود الزلازل والكوارث والفيضانات والجفاف والكسوف وغيرها دون توفر منظومة فكرية أسطورية تحيون (animism) الظواهر المادية أو تنسبها إلى حياة أكبر منها. رعبي من كمية الماء المتدفقة وخوفي من هديرها الجبار جعلني أشعر أن هذا الشيء المتلاطم الغاضب لابد أن يحمل في داخله حياة من نوع معين. لم انتبه إلى رؤيتي للأمر إلا متأخراً. لماذا وصفته بالغاضب وأنا لا أعرف حقيقة مشاعره ولا لماذا يسلك ذلك المسلك في حال تعاظمه. انتبهت أن حياة البشر مثقلة بالمجاز. يلعب الشعر بمعناه الواسع دوراً فعالاً في تظليلنا وتعطيل ملكات التفكير لدينا. نترك الأسطورة والمجاز يفسران ما نعجز عن تفسيره تماماً كما يفعل الأطفال في أحاجيهم ونظرتهم للأشياء. عندما نسيت ابنتي الصغيرة ( ثلاث سنوات) لعبتها في أحد الأسواق جاءت تشتكي لعبتها التي تركتها وهربت منها. اللعبة تهرب. وعندما ضرب تسونامي ضربته الرهيبة قالوا: بأن هناك قوة عاتية أصدرت أوامرها للانتقام من العصاة وعندما عجز المصريون القدماء عن صد الموت الذي يحمله معه فيضان النيل صاروا يعطونه الضحية بطيبة خاطر. ثم صار لكل شيء غاية تتفق مع مصالح الإنسان ورغباته. فالمطر ينزل ليسقي الزرع والشمس تشرق لتمنحنا الضياء والقمر لينير لنا طرقات الليل والظلام لنهجع فيه ونرتاح. عالم مفصل لغايات. حتى تحولت الطبيعة المجردة المحايدة إلى كائنات مفصلة على مقاس بني البشر. الأمطار والعواصف والشلالات والرياح فقدت حيادها. تخلت عن أسبابها وشروط وجودها وتحولت إلى قوى بشرية. من السهل اللجوء إلى الأسطورة. ستجد فيها كل ما تريده وفقاً لغايتك. إذا عافتك المرأة وأحبت غيرك فالعيب ليس فيك, هناك عمل صرفها عنك. وإذا فشلت في دراستك فهناك عين ما تخاف الله بحرز بسيط نبطل مفعولها, وإذا أصيب عزيز بمشكلة في عقله فالشيخ الفلاني سيعيده إلى صوابه بنفثاته الفتاكة. هكذا بكل بساطة. التفكير الطفولي مكان دافئ يحتضن الإنسان ويمنحه ما يريد فلماذا نتخلى عنه؟

فاكس 4702164
YARA.BAKEET@GMAIL.COM


لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6406 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد