Al Jazirah NewsPaper Friday  18/07/2008 G Issue 13077
الجمعة 15 رجب 1429   العدد  13077
نوازع
كاروتشي
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

نقلت الشرق الأوسط خبراً فيما يبدو أن بعضاً من قراء هذه الزاوية قد اطلع عليه، والبعض الآخر لم يتح له الاطلاع، والخبر مفاده: أن بعضاً من اليابانيين قد لقوا حتفهم جراء العمل الزائد، وأن هذا المصدر للوفاة يعتبر مقلقاً للمجتمع والحكومة معاً، فقد سجلت الإحصائيات عام 2007م حالات انتحار ذات صلة بالعمل كان السبب هو العمل الزائد والذي يسمى باليابانية (كاروشي) حتى بلغت تلك الحالات 672 حالة.

نتمنى من الله العلي القدير أن يعطينا رجالاً ونساء، شباباً، وشيوخاً شيئاً من الكاروشي حتى يمكننا أن نساهم في العمل الجاد المثمر لرفع راية الإسلام، والنهوض بالوطن، وخدمة النفس والمجتمع، ويبدو أن أبناء العالم الثالث يقرأون (كاروشي) بالمقلوب فيقولون (إيش وراك) بمعنى ما وراءك حتى تعمل بجد واجتهاد، فما عليك إلا التأجيل إلى الغد ومن ثم بعد الغد، فالأمر سيان، وليس هناك ما يدعو إلى الإنجاز الآن طالما أن غداً قادم، ولماذا يموت الناس وينتحرون من (إيش وراك) كما ينتحر اليابانيون (بكاروشي).

ثقافة العمل، وثقافة الإنجاز، لا يمكن اكتسابها من خلال التدريب والقراءة فحسب، إنما من منطق تربوي خالص يبدأ بالمنزل، حيث يقلد الطفل والده ووالدته، ومن ثم ينظر إلى مدرسه ومدير مدرسته، وبعد التخرج يكون رئيساً أنموذجاً يكتسب منه الأسلوب الذي يسير عليه في عمله.

أعجب من شاب نريده أن يكون جاداً وهو قد لا يرى نماذج من الجادين أمامه، كما قد يواجه متطلبات ونوازع مادية ومعنوية تدغدغ مشاعره من أي الطرق يسلك، وأي منهج ينتهج ليعيش في مجتمعه كأحد أفراده، محاكياً له في أسلوب العمل، وطريقة التفكير.

لذا فإن التربية المنشودة لنصل إلى (كاروشي) هي تربية مجتمع بأسره، ولا يمكن بحال أن نطلب (كاروشي) من العاملين والموظفين ذوي المسؤوليات الصغيرة في الوقت الذي يتهم مديروهم بقسط كبير من الكسل والتهاون والاستمتاع بالراحة التي يجد نظيره الياباني متعة مماثلة، لأنه قد تربى على متعة العمل حتى أصيب بالكاروشي.

بعض الإحصائيات في إحدى الدول النامية أوضحت أن معدل ساعات العمل لدى أفرادها لم يصل إلى ساعة واحدة، بل لم يتجاوز 27 دقيقة في اليوم لانشغالهم بمتعة الكسل، أو حتى لمللهم من الفراغ والكسل، لكنهم قد ألفوا ألا يعملوا، ليسعدوا بالعمل أو يملوا منه، إنما كانت حياتهم السعادة بالكسل أو الملل منه.

أعرف بعضاً ممن لو حسبت عدد ساعات العمل التي ينجزها في اليوم لم يسجل سوى دقائق، ولو أخذ أحدنا ورقة وقلماً وسجل عدد ساعات العمل الجاد في كل يوم لوجد أننا نخسر الكثير من الوقت دون فائدة أو حتى متعة، إنما يمر يومه وغده وهو ينظر التلفاز أو يلعب الورق أو يتحدث فيما لا يفيد. شعوب العالم الثالث بطبعهم شعوب اجتماعية، تحب التآلف والتقارب والاجتماع، وتجاذب أطراف الحديث، كما يألفون تكرار ذلك يومياً مع شعورهم بالمتعة وأحياناً الملل، إلا أنهم لم يعودوا أنفسهم أن يستمتعوا بالعمل ويملوا منه، ثم يعودوا للاستمتاع به.

ونعود للخير مرة أخرى لنقرأ أن مكتب عمل في اليابان قد أصدر قراراً لصالح أرملة مهندس كان يعمل في شركة (تايوتا) ومات في عام 2006م عن عمر يناهز 45 ربيعاً بسبب العمل الزائد (كاروشي) وقد بلغت ساعات العمل الإضافية التي كان يعملها 114 ساعة في الشهر، خلال الأشهر لستة التي سبقت وفاته، وأقول إنهم في الغالب لا يأخذون مبالغ مالية لقاء قيامهم بهذا العمل الذي أحبوه وأخلصوا له.

لعلي أجيز لنفسي الضحك عندما أحسب عدد ساعات العمل الإضافي والانتدابات التي ربما يتقاضاها الموظف في العالم الثالث لقاء نزهة في مصيف، أو زيارة لأهل، أو لإنهاء عمل خاص به أو برئيسه.

هذا النوع من ثقافة العمل يحتاج إلى التربية فمتى، وكيف، ومن يكون البادئ بالأمر؟

الله أعلم بذلك، غير أن الحقيقة التي لا مراء فيها أن العالم بثقافة العمل والعمل الزائد (كاروشي)، سيكون قادراً على تحقيق المزيد والمزيد من التقدم، أما أولئك الذين لا يمارسون تلك الثقافة فعليهم قبض ثمن ثقافة (إيش وراك) ليبقوا إلى الوراء، يقتاتون بفضول موائد غيرهم، ويشربون من كؤوس سواهم قطرات من الماء، لا تسقي ظامئاً ولا تطفئ عطشاناً.

فأي ثقافة يختارها شعب، ويكون أقرب إلى جني الثمر، هذا متروك للشعوب والحكومات جعلنا الله صادقين ومخلصين فيما نقول ونفعل.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد