Al Jazirah NewsPaper Friday  18/07/2008 G Issue 13077
الجمعة 15 رجب 1429   العدد  13077
الأمانة.. أقوى دعائم المجتمع (1-3)
د. محمد بن سعد الشويعر

ما أحسن آداب الإسلام، وما أعدل تعاليمه، فيها يسعد الإنسان، ويطمئن على نفسه وماله، ويتآلف المجتمع، وينمو اقتصاده. وعن الأمانة وردت وقائع محسوسة بين الناس؛ ليطبقوا عن قناعه، ويتعلَّموا عن يقين، بل ما حصل للأمم قبلنا؛ إذ بيّن سبحانه عن أهل الكتاب أن منهم فئتين: ضعيفة الإيمان، ومن يدعي لنفسه الإيمان.. فالثانية: تتهاون بالأمانة، وهؤلاء لا يُرجى منهم خير .....

..... لتعمدهم عصيان الله في حقها، وأمّا الأولى فيُرجى من أصحابها، إذا سَمِعوا الذّكر، وبانت لهم حقيقة الرسالة: الاستجابة لدين الله الحق.

ويؤخذ مقياس هذا الإيمان بالأمانة والمحافظة عليها، أداء أو خيانة، أو جحدان.. يقول سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْه بِقِنطَارٍ يُؤَدِّه إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْه بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّه إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْه قَآئِمًا} (سورة آل عمران 75)، وما ذلك إلا أن الأمانة، التي بيّن سبحانه ثِقْلها في سورة الأحزاب، وأهمية أدائها، وجعلها مقرونة بالإيمان، الذي هو عقيدة مع الله، وركن أصيل من أركان العقيدة، قد خفّ ميزانها في قلوبهم وتعاملهم.

ومع ما وهب الله السماوات والأرض والجبال من قوة، وشدّة في التحمل، وعظمة في الخلق، إلا أن هذه الكائنات، قد أبَيْن عنْ حَملِها، وأشفقن منها، مخافة من عقاب الله الشديد، عند التقصير في أداء حقّها العظيم.

وهذا ما نخافه في هذا الزمان على كثير ممنْ بدؤوا يتساهلون في حق الأمانة؛ لأن الإنسان الضعيف في قدراته، والضعيف في جسمه، والعاجز عن حمل صخرة صغيرة من الجبل، قد كلف نفسه فوق طاقتها ليحمل هذه الأمانة، ذات المسؤولية الكبيرة، والثقل الذي تبرأت منه أعظم مخلوقات الله، المعهودة عندنا، كما هو ظاهر لنا بالمقاييس، وثابتٌ ذهنياً وعقلياً عند البشر.

تبين هذه المقارنة بمفهوم حديث رواه الإمام أحمد - رحمه الله - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضمونه في مسنده: (أن الله سبحانه لمّا خلق الجبال قالت الملائكة: يا ربّ هل هناك أعظم من الجبال؟ قال: نعم الحديد، قالت: يا ربّ وهل هناك أعظم من الحديد؟ قال: نعم النار. قالت: يا ربّ وهل هناك أعظم من النار؟ قال: نعم الماء، قالت: يا ربّ وهل هناك أعظم من الماء؟ قال: نعم الريح. قالت: يا رب وهل هناك أعظم من الريح؟ قال: نعم ابن آدم يتصدّق بيمينه يخفيها من شماله) (رقم 12275 - 3: 124)، وهذا من الأمانة التي يزداد أجرها كلما أُدّيت بخفاء.

وما ذلك إلا أن مِنْ أعمال بني آدم التي يريدون بها وجه الله سبحانه، ومنها الأمانة السرية في جميع الأعمال؛ حيث ترتفع بها مكانة العبد عند ربّه جلّ وعلا؛ لأنه أخفاها، وأدّى حقها في وقتها، مراقبة لأمر الله سبحانه، وخوفاً من عقابه، قبل أن تزلّ قدم بعد ثبوتها، ولأن الأمانة كلما استقرتْ في الوجدان، نبع العمل وحَسُنَ الأداء من القلب، بأداء الجوارح.. تعظيماً لله في حقها عند الأداء..

أو تهون عند بعض الناس، استخفافاً بحقها وجحوداً لمكانتها، متجاهلاً أو متهاوناً بعقاب الله.

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وثق رابطة الأمانة بالدين، الذي هو رابطة مع الله سبحانه جلّ وعلا: عبادة وامتثالاً، ومحافظة في الأداء، وقد جاء ذلك في شرع الله الذي شرع لعباده، وبثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته إيضاحاً لأهميته، وحثاً على حسن الأداء.

والمنطلق من ذلك كله ما بيّنه ربّ العزة والجلال، في سورة الذاريات، عن المهمة من خلق الله سبحانه وتعالى: الجن والإنس، حيث قال جلّ وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات 56) ومن هذه المهمة:

أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانة الأمانة من الدين الحق: وهو الإسلام الذي لا يقبل الله من الثقلين ديناً غيره، وهو من خصوصية أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الحديث، الذي جاء بطرق متعددة، وثقه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1739 ونصه: (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة) وفي رواية (وآخره الصلاة). يعني أن آخر ما تفقدون من الدين: ترك الصلاة.. وهذا يدل على عظمها، ومكانتها من عقيدة المسلم؛ لأن شيئاً فُقد آخره، فقد ضاع كلّه.. وهذا ما يحرص عدو الله (إبليس) على تثبيط الناس عنه: كسلاً ثم تهاوناً ثم تركاً.

والصلاة من الأمانات المستحفظ عليها الإنسان: بالنية الصادقة والوضوء، والركوع والسجود، وسائر الأركان والواجبات والشروط، المرتبطة بهذه العبادة، التي هي من أعظم العبادات في حياة المسلم.

وما ذلك إلا أن الأمانات المتعددة، التي يحملها الإنسان يجب عليه مراعاتها، ووضعها نُصب عينيه؛ ليراعيها ويحوطها بالعناية والاهتمام، كما يجب أنْ تُراعى أمانة الأمور العينية: من نَقدٍ ومتاع، وعروض وأمور نفيسة عند أصحابها، وهذه لا يضيعها إلا شِرارُ الخلق، ممن ضعُف الإيمان في قلوبهم، واستهانوا بحقوق الله والآخرين، فقادهم إلى الاستهانة بالحرمات، ومنها الأمانة أياً كان نوعها.

فمَن هانت عنده شرائع الله من باب أولى أن تهون عنده الأمانة، بمفهومها العام، المرتبطة بتقوى الله وشرعه الذي شرع لعباده، لأنه قدّم شهوات نفسه على أمر الله، وأمر رسوله، ولأن النفس الأمّارة بالسوء حَبّبتْ لصاحبها ما تميل إليه من أمور عاجله {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاة الدُّنْيَا..} (سورة آل عمران 14).

وهذه الأصناف بعد العبادات جزء مما يدخل تحت سقف ضياع الأمانة والتهاون فيها طمعاً وتعدياً.

وفي عرض شرع الله للأمانة يقول تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّه كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (سورة الأحزاب 72).

وهذا بيان لأهمية المحافظة على الأمانة لثقلها، والدور الواجب رعايته بشأنها، وعن بعض هذا الدور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله حديثين، قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذْر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه مُنتبراً وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال: ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من إيمان.

(للحديث صلة)

من عجائب خلق الله: النملة

كل ما خلق الله من شيء صغر أو كبُر عَظُم في نفوسنا أو ازدرته العيون، فإنما هم أمم أمثالنا، خُلقوا لحكمة إلهية، لا تدركها، أو تعرف مغزاها، إلا من فحوى هذا النص الكريم: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (سورة المدثر 31) وقوله جل وعلا: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَه وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (سورة الإسراء 44).

ولقد علّم الله نبيه سليمان منطق الطير، ولغة النمل؛ حيث جاء في القرآن الكريم قول النملة: {قَالَتْ نَمْلَة يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُه وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، فكان رد سليمان عليه السلام على قولها: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ...} (سورة النمل 18 - 19).

قال ابن كثير: إن وادي النمل كان بأرض الشام، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب، أو غير ذلك. وقال البكالي: إنَّ نمل سليمان أمثال الذباب. والغرض أن سليمان فهم قولها، وتبسم ضاحكاً من قولها، وهذا أمر عظيم، ثُمّ أورد حكاية بسندها: بأن سليمان عليه السلام خرج يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنّا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلا تسقنا نهلك. فقال سليمان عليه السلام: (ارجعوا فقد سُقيتم بدعوة غيركم).

ثم أورد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قَرصتْ نملة نبياً من أنبياء الله، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة تهلك أمة من الأمم، تسبّح؟ فهلا نملة واحدة. (تفسير ابن كثير 3: 361).

وفي هذا نورد حكاية نشرت في إحدى الصحف المصرية، بتاريخ 20-1-2007م هذا نصها: ذكروا أن سليمان كان جالساً على شاطئ بحر، فبصر بنملة تحمل حبّة قمح، تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها، حتى بلغت الماء فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء، ففتحت فاها فدخلت النملة، وغاصت الضفدعة في البحر ساعات، وسليمان يتفكر في ذلك متعجباً، ثم خرجت الضفدعة من الماء، وفتحت فاها، فخرجت النملة، ولم يكن معها حبّة، فدعاها سليمان عليه السلام، وسألها عن شأنها، وأين كانت؟ فقالت: يا نبي الله إن في قعر البحر الذي تراه صخرة مجوّفة، وفي جوفها دودة عمياء، وقد خلقها الله هنالك، فلا تقدر أن تخرج منها لطلب معاشها، وقد وكلني الله برزقها، فأنا أحمل رزقها، وسخر الله تعالى هذه الضفدعة؛ لتحملني فلا يضرني الماء في فيها، وتضع فاها على ثقب الصخرة، وأدخلها ثم إذا أوصلت رزقها إليها، وخرجت من ثقب الصخرة، فتخرجني الضفدعة من البحر.

فقال سليمان عليه السلام: وهل سمعت لها من تسبيحة؟ قالت: نعم. تقول: يا من لا ينساني في جوف هذه اللجة برزقك لا تنس عبادك المؤمنين برحمتك. (الأهرام القاهرية يوم 20-7-2007م).



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد