Al Jazirah NewsPaper Friday  18/07/2008 G Issue 13077
الجمعة 15 رجب 1429   العدد  13077
الهجرة نحو (الإنجليزي)... تهديد الهوية (2/2)!
د. عبدالله البريدي

(اللغة) قبل أن تكون أداة تواصل بيننا كبشر، هي وجه أصيل ل(عملة الهوية) التي تطبعنا بسمات تميّزنا عن غيرنا، فاللغة في جوهرها ليست هي الحروف والكلمات التي ترمز إلى الأفكار والمشاعر والأشياء من حولنا، وإنما هي قوالب لغوية - فكرية تعكس ما تنتهي إليه ثقافة ما نحو تلك الأفكار والمشاعر والأشياء في شكل رموز لفظية في دلالات وأجراس محددة.....

.....وذلك بحسب الطابع المهيمن على الثقافة دينياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ووفق احتياجات تلك الثقافة والملابسات والظروف التي يمر بها أهلها، مما يجعل اللغة تستجيب ل (طلبات الثقافة)؛ في شكل (منتجات دلالية)، فالثقافة التي يتعامل أهلها مع الإبل بطريقة مكثفة - كالعرب - تجعلهم ينحتون الكثير من المفردات اللغوية التي تعبر عن استخدامهم والتحام حياتهم بها، وثراء تلك المفردات يقوم على توصيفها وفق شكلها أو جنسها أو مراحل عمرها أو وظائفها أو أماكنها، وقد عكس القرآن الكريم تلك الحقيقة حيث احتوى على ثلاثة عشر اسماً للإبل، وحين يكابد أهل ثقافة معينة عنت مجابهة الثلج - كالإسكيمو - فإن لغة تلك الثقافة ستخلق كلمات كثيرة غير مترادفة لتتمكن من العيش والصمود أمام هجمات هذا النوع أو ذاك من الثلوج، والثقافة التي تعلي من شأن (الحب) ستخلق (لغتها) مفردات متنوعة وثرية لتعكس الاتجاهات والحالات والمواقف حيال الحب بكل أشكاله؛ ومن هنا فلا نبالغ حين نقرر بأن اللغة هي إحدى أهم أبعاد (البصمة الثقافية) للمجتمعات والشعوب، فما بالنا نتجاهل ذلك حين نفكر في اتخاذ قرار يجعلنا (نفكر بلغة الآخرين) ومن ثم الارتباط بمفرداتهم واستخدام قوالبهم الفكرية التي استجابت لاحتياجات ثقافتهم وتناغمت مع مقاساتها!!

ثمة معالم بل نتائج سلبية مباشرة لعملية التغاضي عن مهددات الهوية العربية، ومن ذلك ما نشهده من ضعف مستوى اللغة العربية لدى النشء، فقد تردى إلى درجة رأينا من أولادنا وبناتنا من يسمي لغتنا العربية ب (اللغة المكسيكية) وهم يشيرون إلى اللغة المحكية بالمسلسلات المكسيكية المدبلجة بلغتنا الفصحى (د. أمل الطعيمي، الحقن المكسيكي يا نساء الندوة، جريدة اليوم، 17-2-2008م)!!، أنا أعلم أن تردي لغة أبنائنا وبناتنا يعود إلى عوامل أكبر وأكثر تعقيداً من مجرد التدريس باللغة الإنجليزية، غير أن التدريس بتلك اللغة الأجنبية سيفاقم المشكلة، لاسيما إذا نُفّذ بطريقة لا تكترث بقليل أو بكثير لمسألة علاقة اللغة بالهوية!

وقد ضمر التزامنا (العام) باستخدام اللغة العربية في مشاهد كثيرة، فقد (تسامحنا) بأكثر مما ينبغي عن حالات التعدي على اللغة العربية في مهد العربية، فتزايد الأسماء الأجنبية للمؤسسات والمحلات أمر لا تخطئه العين، والكارثة أن ثمة تسامحاً من قبل شرائح عريضة في مجتمعنا عن مثل تلك التوجهات، بما في ذلك بعض الشرائح (المتدينة)، وإنني أتذكر جيداً حواراً دار بيني وبين أحد الإخوة الأكاديميين ممن يحملون (الذهنية الإسلامية) حول ظاهرة التعدي على اللغة العربية باستخدام الكلمات الأجنبية في أسماء المؤسسات، فرد عليَّ بكل جرأة قائلاً: أنت تقول هذا (الكلام) لأنك لم تجرّب (البزنس)!!، فهو (يزعم) بأن كل من يجرب العمل التجاري فإنه سيكون مندفعاً لاستخدام تلك الأسماء الأجنبية لأغراض التسويق وغيرها، فالجودة بحسب زعم أولئك قد ارتبطت بتلك الأسماء!!، ومشهد آخر وقفت عليه مؤخراً في مدينة (بريدة) - والتي ينظر إليها البعض على أنها محافظة -، حيث وضعت بعض المؤسسات التجارية لوحة إعلانية كبيرة وبخط عريض مكتوب عليها (كاش باك)، وفي أسفل اللوحة كتبوا بخط لا يكاد ُيرى ترجمة لتلك العبارة الأجنبية: نقدية ُمستردة، ما الذي حمل كل أولئك على هذا اللون من التعدي والاستهتار والمتاجرة بلغتنا وكبريائنا ومن الذي جرأهم على ذلك، أشيء آخر غير سكوتنا وغفلتنا غير المبررة؟!!

أنا أدرك أن ثمة من سوف يعترض على هذا التحليل ويحمله ما لا يحتمل، ويصمه بأنه نكوص على الحداثة وتجنٍ على المصالح وتجاهل للعقلانية ونحو ذلك، غير أنني أدرك أيضاً أن مثل ذلك الخطاب لا يتكئ على مسوغات مقنعة، ولنا هنا أن نقرر أن التغاضي عن علاقة اللغة بالهوية جعلنا نرى تجاوزات كثيرة غير مقبولة البتة، ولعل منها ما تم في (منتدى جدة) الاقتصادي من فرض اللغة الإنجليزية كلغة رسمية للمنتدى، ولقد ندد بعض المثقفين بمثل تلك الممارسة الغريبة، غير أن هذا لم يمنع الجهة المنظمة من تكرار الممارسة ذاتها في العام التالي!، ولعل من المناسب أن أسوق مشهداً واحداً صوره لنا الأستاذ نجيب الزامل حول ذلك المنتدى، فهو يذكر أن اللغة (المقننة) (عدلاً وجبراً) على جميع المتحدثين هي اللغة الإنجليزية، ويضيف أنه لو كان هناك اختراعٌ يمنع دخول أي كلمة سوى الإنجليزية في الآذان لوضعت دون تردد!...

ويواصل الأستاذ الزامل ليجسد لنا لوناً من العار الذي يلحق بالمجتمع حين يفرط بشيء من هويته، فهو يقول - بالنص -: (قام الرجل الكامل الأناقة السيد - حارس سلاجيتك - الرئيس البوسني مثل غيره، وتساوى وراء المايك...وتنحنح مثل غيره..ولما تحدث.. كانت المفاجأة، والخروج عن النظام.. وأسقط في يد معدي المنتدى.. تكلم الرجل وبطلاقة باللغةِ المكسيكية..أقصد بالعربية الفصحى.

وكانت لغة عربية صافية سلِسة بلا لحنٍ ولا هناتٍ لغويةٍ ولا سقطاتٍ نحوية، كما هي عادة الخطباءِ والمتكلمين من أرومتنا.. الغريب..

لم يحدث شيء، ولم تنقلب الدنيا، ولم يفشل المنتدى، ولم يكن عسيراً أبداً فهم ألفاظ الرئيس البوسني، فالترجمة الفورية تقدمت بشكل كسرت كل عوائق اللغة...) (جريدة اليوم، 27-2-2008م).

مثل هذا الأمر وتكراره في مهد العربية يجعلنا نقابل تلك الصورة البئيسة بما يحدث في الاتحاد الأوربي، حيث إن (المفوضية الأوروبية تضم الآن 1300 مترجم لتغذية الحاجة الشديدة للترجمة، وهناك 27 مقصورة للترجمة حول قاعة المناقشة في البرلمان الأوروبي، وستزاد كي تستوعب اللغات الجديدة، على ما يذكره موقع ال BBC العربي.

وهذا الاحتفاظ باللغة الوطنية، والإصرار على تفعيلها في مختلف المواقع عكس ما نفعله نحن العرب...) (الضبيب، تعجيم التعليم-2، جريدة الجزيرة، 6-4-1429هـ)، ونحن نقرأ كيف يصور لنا بعض المثقفين العرب (بطولية) سائق التاكسي في دولة أوربية والذي رفض أن يتحدث باللغة الإنجليزية مع أنه يعرفها اعتزازاً بلغته وثقافته القومية، وحين نروم نحن التلبس بشيء من هذا ينقلب الحال ويسوء التوصيف!!

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه سمح مؤخراً لعدد من (الثقافات) أن تكتب عناوين مواقع الإنترنت بلغاتها الأم، وهي إحدى عشرة لغة، من بينها لغة الضاد، وذلك بعد عشر سنوات من (الكفاح اللغوي) مع الهيئة الأمريكية المختصة - هيئة ايكان -، والتي كانت تماطل طويلاً وكانت كثيراً ما تردد: نحن مشغولون، تعلموا اللغة الإنجليزية!، وقد وصفت بعض الدول - كالصين وكوريا وروسيا - هذا الإجراء بأنه إنهاء لعصر (الاستعمار الرقمي للإنجليزية)!!

وفي خضم الحديث عن شبكة الإنترنت، حذرت دراسة عربية متخصصة من ظهور (لغة موازية) لدى الشباب العربي واستخدامهم لها في الإنترنت، وتلك اللغة (الشائهة) من شأنها تهديد العربية الفصيحة، وذكرت الدراسة بأن الشباب العربي لم يهتبل فرصة استخدام اللغة العربية في كتابة مواقع الإنترنت، وعزت الدراسة ذلك إلى ضمور العناية بلغة الضاد لديهم، (دراسة د. علي صلاح محمود، المركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية في مصر، موقع محيط الإخباري)، وأحسب أن ضعف اهتمام الطلاب والطالبات باللغة العربية وهزال الجانب المعرفي والمهاري لديهم، مسألة محسومة لدى كل من له صلة بالتعليم في كافة مراحله.

والحقيقة أن المشاهد التي تؤكد خطورة مهددات الهوية متكاثرة بما لا يسع المجال للتوسع بذكرها، والنتائج المدمرة لبناء اللغة العربية وقوتها وتمددها وعزتها أكبر بكثير مما يظن البعض، غير أنه لا يسوغ لنا أن نغادر هذه المسألة دون أن نؤكد على بعض المسائل المهمة، ومن ذلك أننا نفرق بين (تعلم الإنجليزية) و(التعلم بالإنجليزية)؛ فحرف الجر (الصغير) يجعل الفارق بينهما كبيراً، ف (تعلم الإنجليزية) يعني أن الإنسان الذي يحتاج إلى تلك اللغة فإنه سيقدم على تعلمها واستخدامها بالمهارة المطلوبة كآلة تواصل في السياقات التي تتطلب ذلك، أما (التعلم بالإنجليزية) فإنه يعني أن الإنسان بات (يفكر) بأدوات تلك اللغة وقوالبها الفكرية التي استجابت ل(طلبات ثقافية) تخص المجتمعات التي تتحدث بالإنجليزية، وبالذات الأكثر قوة ونفوذاً!!

وهذا فارق ضخم، له دلالاته واستحقاقاته وآثاره الخطيرة! ومسألة أخرى أبوح بها بكل شفافية ثقافية، وهي أنني كمثقف يتملكني تخوف من جراء العمليات غير العقلانية التي نشهدها ل(الهجرة نحو الإنجليزي) في منطقتنا و(الاغتراب اللغوي) المتزايد لدى أبنائنا وبناتنا من خلال التفكير بقوالب الآخر الفكرية وأدواته اللغوية، لاسيما في منطقة تتواجد فيها القوى الدولية الكبرى، في سياقات فكرية وسياسية يطرح فيها بعض المثقفين العرب الليبراليين - بالذات من المحسوبين على الليبراليين الجدد - نظرية (الاستقواء بالخارج)، فهم يؤمنون ويصرحون بأن تدخل القوى الأجنبية في شؤوننا العربية بما في ذلك التدخلات العسكرية المباشرة أمر له مسوغاته!!!

إذن، نقول وبكل جسارة بأن مشروعات (تعجيم التعليم) التي يسعى لها البعض في جامعاتنا تقع ضمن المهددات الكبرى لهويتنا...

لاسيما أنهم يتحدثون عن تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية ذات الارتباط العضوي بثقافة المجتمع وإطاره الحضاري......

وفي هذا المقال سقنا بعض الملامح الدالة على ذلك التهديد لهوية المجتمع وثقافته، وبقي الحديث عن المسوغ (الكارثي) الثاني الذي يجعلنا نشدد على ضرورة إعادة النظر في مشروعات التعجيم والتي تنطلق من نظرات تجزيئية آنية... في هجرة نحو دوائر الآخر... وانفلات عن دوائر الأنا!!!!

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7569» ثم أرسلها إلى الكود 82244



beraidi2@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد