Al Jazirah NewsPaper Sunday  20/07/2008 G Issue 13079
الأحد 17 رجب 1429   العدد  13079
حمقى هذا العصر
علي سعد القحطاني

لو قدر للإمام ابن الجوزي (ت 597) أن يعيش بيننا لما استطاع أن يحصل على فسح إعلامي لطباعة كتابه الشهير (أخبار الحمقى والمغفلين) لجرأته وانتقاده الشديد في هذا الكتاب فئات المجتمع بدءاً من رأس هرمه حتى القاع، ورغم كونه إماماً وفقيهاً ومفسراً لم يستثن أنداده في المهنة وأخذ،،،،

يعدد حماقتهم حتى أن البعض من طلبة العلم شكك في نسبة الكتاب إليه، والقارئ لهذا الكتاب يعطي تصوراً عاماً عن حجم الحريات التي كانت متاحة في ذاك العصر قبل أن تتقلص وتصل إلى مستويات متدنية في عصور لاحقة من بعدهم.

وكان ابن الجوزي يرى أن الحماقة غريزة وذكر خبراً منسوباً لأبي إسحاق مفاده: إذا بلغك أن غنياً افتقر فصدق، وإذا بلغك أن فقيراً استغنى فصدق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلاً فلا تصدق. ويرسم ابن الجوزي شخصية الأحمق ويصوره في رسم كاريكاتوري ساخر مستدلاً بنقولات عن جالينوس - طبيب إغريقي قديم - الذي يقول: لا يخلو صغر الرأس البتة من دلالة على رداءة هيئة الدماغ، وإذا قصرت الرقبة دلت على ضعف الدماغ وقلته، وضرب ابن الجوزي الأمثال بمن عرف حمقه (أحمق من هبنقة)، أحمق من جحا)، (أحمق من ذئبة)؛ لكون الأخيرة تدع ولدها وترضع ولد الضبع، ومن جراءة ابن الجوزي في كتابه أنه يذكر أسماء الحمقى الرباعية ولو كان في عصرنا هذا لأتى بصورهم وأرقام سجلاتهم المدنية، ومن حسن حظه أنه لم يلد بعد (مراقب المطبوعات) في زمانه، وأتساءل وأنا أقرأ عن أخبار الحمقى المعرّفين بذواتهم وأسمائهم: كيف وجد ابن الجوزي مخرجاً لسرد قصصهم؟ ألا يعد ذاك من الغيبة والتغامز والتنابز المنهي عنها؟ وكيف يفعل ذلك وهو العالم الجليل فقيه زمانه وإتقانه - رحمه الله - لعلوم كثيرة، وكان واعظاً تاب على يده مائة ألف وأسلم على يده عشرون ألفاً، كما تقول الروايات، ولا أحد يزايد على ابن الجوزي في وعظه وتقواه وهو يسرد تلك القصص المسلية عن هؤلاء المغفلين؛ فقد تنبه المؤلف إلى تلك المسألة وعلل جمعه لأخبار الحمقى والمغفلين لثلاثة أشياء:

الأول: أن العاقل إذا سمع أخبارهم عرف قدر ما وهب له مما حرموه؛ فحثه ذلك على الشكر.

الثاني: أن ذكر المغفلين يحث المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة.

الثالث: أن يروح الإنسان قلبه بالنظر في سير هؤلاء المبخوسين حظوظاً.

والحماقة كما جاء في تعريفها عن ابن الأعرابي مأخوذة من (حمقت السوق) إذا كسدت، فكأنه كاسد العقل والرأي فلا يشاور ولا يلتفت إليه في أمر، وقد قام ابن الجوزي باستقطاع وقته الثمين وأخذ يملي على كاتبه حمقى زمانه وهو يقهقه تارة ويحمد ربه تارة أخرى، شاكراً له على نعمة (العقل) المسلوبة من هؤلاء المحرمين، وبلا شك أن الحماقة تتعدد أشكالها بظهورها في معناها الحقيقي وتتوارى من خلف الحجب في صورها المجازية المتعددة، وقد تضاعفت أعداد الحمقى في هذا العصر وهم معرفون بسماتهم وهيئاتهم وتطفلهم؛ فالأحمق يدعي معرفته بكل شيء؛ فهو يتحدث في الاقتصاد وأحوال الطقس ومسائل الدين، ولا يجرؤ في إجاباته على قول (لا أعلم)، ورغم أن كتاب ابن الجوزي لا يتعدى 150 صفحة في رصد حماقة زمانه فإن عصرنا الحديث يحتاج إلى موسوعات ومجلدات ضخمة لتوثيق ورصد كل الحماقات التي نراها كل يوم، وربما كل ساعة، في حياتنا اليومية، والطب الحديث لا يعد الحماقة من الميكروبات والجراثيم ولم يصنفها بعد على أنها من الأمراض الموجبة للعلاج؛ فالعرب قديماً أيقنوا أن الحماقة لا سبيل إلى علاجها، وأنها أعيت من يداويها، ولو - فرضاً - اُكتشف مرهم لتطبيب هؤلاء الحمقى فسوف نحرم من نعمة الضحك وتصبح حياتنا مثقلة بالجد والكبد والمشقة والصرامة ومدعاة للملل والكآبة، وحينها نترحم على هؤلاء الكوميديين الذين يملؤون حياتنا بالضحك.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد