Al Jazirah NewsPaper Tuesday  29/07/2008 G Issue 13088
الثلاثاء 26 رجب 1429   العدد  13088
ليتني أعيش في جلباب أبي
وفاء محمود طيبة

(في رثاء والدي الحبيب الشيخ محمود طيبة الذي فقدناه يوم الأربعاء 13 رجب 1429هـ).

يصعب الحديث عن الشخصيات خاصة لو كانت تلك الشخصية هي شخصية أبي.. حبيبي.. وبعد أيام قلائل من انتقاله إلى جوار ربه الذي عاش ومات على حبه، وما زالت الآلام والأحزان والآمال والأفكار تتلاطم في قلوبنا.

لقد عشنا استقراراً أسرياً قلما يتاح لأحد، غمرنا جميعاً بحبه، كان يكن الاحترام والحب لوالدتي، كبرنا وتزوجنا وخرجنا من البيت ولم نسمع خلافاً واحداً قط بينهما، كان يحترم والدتي وكانت تحترمه، ويحترمان مشاعرنا كأطفال يمكن أن تتأثر نفوسنا بأي كلمة، بل كان دوما يردد: (الله يرزقكم سعادة كسعادتنا) ولم يفرق بين بنات وأولاد قط، كان هاني يقوم بغسل الأطباق وتنظيف طاولة الطعام كمساعدة لوالدتي مثلنا نحن البنات.

كان يهمه جداً أن يقضي بعض الوقت معنا على انشغاله فكان يذهب بنا إلى البر (خريص) مرة في الأسبوع، يوم الجمعة، عندما كنا صغاراً، كما كان لابد من اجتماعنا دوريا في بيت أحد من أعمامي كل خميس، مما جعل بيننا رابطة قوية نلمسها حتى اليوم زرعها الجيل السابق فينا وحافظنا عليها، أما هذه الأيام فكنا نجتمع كل أربعاء وخميس وجمعة في بيت أحدنا، فقد كان الترابط الأسري مهم جداً بالنسبة له.

لن أتكلم عن عمله مع الأيتام فقد تكلم عنه كثيرون، ولكني أقول إنه انتقل إلى بيت حي الرائد حيث كان من المخطط أن نسكن جميعا أنا وزوجي، وأختي سمر وزوجها، ليكون بجوارنا، وليبني منزلا مناسبا لوران، الطفلة اليتيمة المعوقة التي يرعاها وأمي، مع أنه كان في السبعينيات من عمره، وصمم المنزل الجديد ليكون مناسبا للطفلة، حيث في البيت مصعد وخدمات أخرى مناسبة لإعاقتها، ولم يستخدم - رحمه الله - المصعد ليصعد إلى غرفة نومه قط إلا في الشهرين الأخيرين من عمره وفي أيام مرضه، وكأنه يريد أن يقسم لربه أنه لم يجعل ذلك المصعد في البيت إلا ل(روان)، اليتيمة التي أحبها ورعاها ولم يكن لينام حتى يسلم عليها، ولا يسافر إلا يتصل بها يطمئنها على سلامة وصوله، تتدلل عليه قائلة: بابا أبغى فلوس، فيخرج مئات الريالات من جيبه ويعطيها.

كان أبي حاد الذكاء قوي التفكير كانت له نظرة معناها (فهمت ما لم تقله!!) يحب الرياضيات، وكنت في الثانوية قد اتجهت إلى القسم العلمي، أحب الرياضيات مثله، وألجأ إلى مساعدته أحيانا عندما تصعب علي مسألة، نجلس سوياً ونحل المسألة، وفي اليوم التالي يقول: (وفاء المسألة التي حللناها أمس لها حل آخر!) ويشرح ذلك الحل، ثم عندما يعود من العمل مساءً متهلل الوجه، يقول وأنا أرفع المشلح عن ظهره: (وفاء المسألة حقت أمس لها حل ثالث!!)، كان مرن التفكير تشغله أمورنا العلمية كثيراً وأذكر أنه بكى يوم حصلت على الماجستير، كما أنه ومع رغبته الشديدة في أن يكون أحد أبنائه طبيباً لم يصرح بتلك الرغبة ولم يتدخل في اختيارنا لتخصصاتنا أبداً، وسعد جداً عندما تخرجت أختي سلوى من طب الأسنان، هموم أبنائه وأحفاده وأبناء إخوته همه الأول، والكل يشهد بذلك، ولا يريد أن يثقل على أحد بخدمته ولو بكأس الماء.

سألته يوماً عما كان يفعله في غيرة وحسد الآخرين المعتاد من الناجحين؟ فأجاب: أين هو ذلك الحسد؟ وكان في ذلك الجواب أبلغ حكمة، حيث كان لا يلقي بالا للحاسدين، وإنما ينطلق بعمله وخدمة وطنه وهدفه الأسمى هو رضى الله سبحانه وتعالى ولذلك لا يهمه أحد، لم يكن يرى في المناصب إلا مسؤولياتها، وأنها مجال أوسع لطاعة الله بعمارة أرضه، استشرته وهو - رحمه الله - في مرض موته في منصب عرض علي في جامعة الملك سعود حيث أعمل، وكنت مترددة جداً في قبوله لرغبتي في أن أكون بجواره أكبر وقت ممكن في مرضه، فقال لي: لابد أن تقبلي؟ قلت: لماذا؟ قال الإنسان لابد أن يرتقي في المسؤوليات، فاستخدم كلمة (مسؤولية) ولم يقل (يرتقي في المناصب) فما المناصب في نظره إلا مسؤولية يجب تأدية حقها والرقيب هو الله ولا أحد غيره.

علمنا منذ صغرنا الأمانة والمحافظة على المال العام، فلم يكن ليقبل أن نستخدم ورق الدولة أو أقلامها في أي استخدامات شخصية، وكنا نقول لبعضنا البعض: (هذا ورق الوزارة لا تستخدمه).

وهكذا حافظ أبي حبيبي على أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما استطاع، كان متوازناً في كل شيء، علق في بيتنا لوحة عليها آية كريمة كانت أهم مبادئه (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، يغدق علينا بما أعطاه الله، ويهتم بإكرام الضيف، ومع ذلك كان زاهداً في حياته يرفض أن تطبخ أم هاني في الأيام العادية أصنافاً كثيرة على المائدة. ويقول لها دائماً: (عندما يكون هناك طبق واحد نعرف ماذا نختار لنأكل!) ويردد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حسب ابن آدم لقيمات يقمن أوده) كما كان - رفع الله منازله في جنة الفردوس - يكرر على مسامعنا في كثير من المواقف (أتريدون أن يقال لكم أذهبتم طيباتكم في الحياة الدنيا)؟

ما كذب قط. يحب ممازحتنا وممازحة أحفاده بلطف صادق وبدون كذب. له مع كل من أحفاده موقفاً معيناً يذكره له. وما قال كلمة تتأذى منها المسامع قط لا معنا ولا مع غيرنا، كان دائماً معسول الكلام، ينتقي الألفاظ بعناية قبل أن يقولها، يكاد القريب منه يرى حركة الأفكار في رأسه لشفافيته وهو يحاول انتقاء الكلمات حتى لا تؤذي أحداً، حتى في المواقف التي كانت تضايقه.

وكان من تواضعه - رحمه الله - أنه انتقل إلى ربه وله أوسمة وأعمال كثيرة لا نعرفها عنه عرفناها بعد موته، لم يكن يقبل أن نقبِّل يده أبداً، أبداً، وسمح لنا بتقبيل رأسه فقط وبصعوبة في السنة الأخيرة قبل وفاته، ولكن سامحنا يا حبيبي فقد قبلنا يديك وقدميك وكتفيك وجبهتك المضيئة وأنت على فراش المرض لا ندري إن كنت تشعر بنا.

أحَبَّ أزواجَنا كأبنائه وزوجات أبنائه كبناته، وكان يعمل بهذا الحب ويلمسه الجميع، احترم الكبير والصغير، فالاحترام شيء أساسي في حياته، فلا ينادي زوجي خالد طيبة إلا بالدكتور خالد، مع أنه ابن أخيه، وعندما يرسل لي مظروفاً في شأن من شؤون العمل بالشورى كان دائماً يعنونها (ابنتي الحبيبة الدكتورة وفاء طيبة).

كان حبيبي والدي منظماً جداً، من يدخل مكتبه في المنزل يلمس ذلك بسهولة له ملفات لكل شيء معنونة بالموضوعات التي تحتويها، منظماً في وقته، منظماً في أعماله الخيرية، له منهج في التنظيم يحافظ عليه، ورثه عنه أخي الحبيب هاني.

يحب الشعر، وينتقي من الشعر بعض القصائد ليحتفظ بها في ملف خاص، ويصور القصائد التي تعجبه ويرسلها لنا، كان يحب شعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي، ويحتفظ بقصائد للدكتور غازي القصيبي، ولكنه لم يكن يقرض الشعر فوهب الله ابنه الأصغر (محمد) - حفظه الله - تلك الموهبة.

يمكن تلخيص حياة أبي - رحمه الله رحمة واسعة - في مجموعة من المبادئ والمعايير مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، عاش عليها ومات عليها، ظهرت آثارها حتى في لحظاته الأخيرة على فراش المرض، عندما كنا نتجمع حول الفراش، فيشير لنا بيده إشارة معناها (استريحوا.. استريحوا). مجموعة من المعايير يزن بها حياته كلها، حركاته وسكناته وكلماته وتصرفاته وانفعالاته وردات أفعاله، منها: (لا تحرِّم ما أحل الله لك)، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، إنما تنصرون بضعفائكم، أذهبتهم طيباتكم في الحياة الدنيا، تبسمك في وجه أخيك صدقة، وتعين الرجل على دابته صدقة، ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، كن سهلا إذا بعت سهلا إذا اشتريت، وغيرها.

تعزينا الناس بأن أبا كهذا - ولا نزكي على الله أحدا - يجب أن نفرح له، بهذه الخصال الحميدة والذكر الطيب، نعم، ولكنها في الوقت ذاته مسؤولية عظيمة على أكتافنا، خصال تزيد من حبنا له وألمنا على فراقه.

أرجو من الله تعالى أن يكون في الفردوس الأعلى، وفي صحبة رسول الله لرعايته للأيتام، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بإصبعيه)، ولحب الناس له، وكنت أبشره بذلك في أيامه الخيرة قائلة: أبشر أبا الأيتام أبشر، أبشر فإن الله يحبك، فقد أحبك القريب والبعيد، وشهدوا لك بالخير، فيبتسم ابتسامة خفيفة وهو مغمض العينين. ولحسن خُلقه الذي شهد له به الجميع، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً. ولرعايته لنا نحن بناته، وقد وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحسن إلى بناته بأن يكن له سترا من النار، وأشهدكم جميعا، وأشهدك يا رسول الله، وأشهد الله - عز وجل - أننا نحبه حباً شديداً كما أحبنا، وأنه قد أوفانا حقنا إحسانا، ورحمة، وإكراما، ولا نزكي على الله أحدا، فيا رب السموات والأرض، يا من كنت في حياته الأول والآخر، أكرم نزله، أكرم نزله، أكرم نزله، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، وتقبله عندك في عليين في جوارك بصحبة حبيبك محمد - صلى الله عليه وسلم -.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد