Al Jazirah NewsPaper Saturday  02/08/2008 G Issue 13092
السبت 01 شعبان 1429   العدد  13092
الحوار مع وبين الحضارات وفكرة التخوين
د. فوزية البكر

لا أعرف بماذا كان الملك عبدالله يفكر حين أقدم ونفذ مشروعه غير المسبوق الذي دشّنه بمؤتمره لحوار الأديان والفلسفات الوضعية الذي أتم أعماله الأسبوع الماضي في العاصمة الإسبانية.. كان من المدهش أن ترى المسلم والمسيحي والبوذي جنباً إلى جنب.. كل يحاول التعرف على ما تمَّ التعارف عليه عبر كل الثقافات ولفترات تاريخية طويلة بأنه مناطق خطر قابلة للانفجار.

يكفي أن نفتح الإنترنت حتى نرى أن خطوة خادم الحرمين الشريفين لم تكن سهلة وأن الفكر الذي تم حقنه بمضادات التعصب والتقوقع والأحادية المفرطة لسنوات طويلة يعيث فساداً في فضاء هذا الإنترنت ناشراً كراهيته ومراهقاته السياسية لتخويف من يتجرأ على الدخول لمناطق اللا مفكر فيه وهو الحوار بين الأديان والثقافات.

ورغم أن فكرة التواصل مع الحضارات الأخرى لم تكن أبداً جديدة على الفكر والتاريخ الإسلامي (ويضيق المجال هنا لاستحضار الأحداث التاريخية الكثيرة التي تؤكد أن قدرة الحضارة الإسلامية وأية حضارة أخرى على التأثير في التاريخ كانت من خلال تواصلها مع الشعوب والثقافات الأخرى) إلا أن ما مرَّ علينا من فترات غيبوبة فكرية وحضارية أثمر هذا النبت المتعسر الذي نجح للأسف خلال السنوات العشرين الأخيرة في (كهربة) علاقتنا بالثقافات والأديان الأخرى من خلال فكر التطرف والأحادية الذي تدفع الأمم ثمنه من أمنها وقوتها اليومي، كما ندفع نحن الأفراد العاديين الذين لا علاقة لنا بالسياسة أو باتخاذ قرارات مصيرية وفي كل مكان في العالم ثمن هذا التطرف سواء تعلق الأمر بالحصول على وظيفة في بلد ما (المهاجرون المسلمون في كل مكان وما يلقونه اليوم من عنت في البلدان التي هاجروا لها).. أو نحن في الداخل حين نحاول الحصول على فيزا أو بعثة دراسية أو نقف في مطار كمشبوهين أو.. أو.. ومن هنا تجيء فكرة وصعوبة الخطوة التي أقدم عليها خادم الحرمين الشريفين.

ربما كان هناك جانب مشرق وعلاجي في المسألة؟؟؟. نحن إذن لسنا وحدنا (من أفراد ومثقفين) مَنْ تُكال لهم هذه التهم (الفضفاضة) وها هو الوالد الكبير يقرر مشاركتنا في بعض مرارة ما نجبر أحياناً على تذوقه مرغمين!!! إنه ملك متفرد بحق!!!

لا أظن أن أي مشتغل في القضايا العامة أياً كانت درجة ونوع هذا الاشتغال لم يتعرض في فترة من حياته لدرجة من درجات التشكيك الذي قد يصل في درجته القصوى إلى التخوين والاتهام بالعمل ضد مصالح وطنه بأشكال متنوعة فقط لتشويه عمله وللتقليل من درجة التأثير الذي قد يحدثه.. يظهر ذلك في المجتمعات التي عاشت منغلقة على نفسها لفترات معينة من التاريخ لعوامل عديدة قد تطبعها الجغرافيا أو الاقتصاد أو الأدلجة أو الأنظمة السياسية.

وتقف العامة في هذه المجتمعات والكثير من المشتغلين في أجهزة الدولة وبخاصة تلك الحساسة عادة موقف الحذر والشك من أية محاولة للتواصل مع الثقافات أو الشعوب وتعتبرها إما ضعفاً أمام ثقافة الآخر المختلف.. أم هي الرغبة في الظهور.. أم هي لوجود مصالح معينة.. أم هي لمجرد الاختلاف وتحقيق الإيذاء.

لن أنسى قبل سنوات وكنت أسير في الجامعة وبكل وقاحة وحذر كانت تمشي إحداهن خلفي (سعودية ومن طريقة لباسها وسلوكها فهي كانت تنتمي لفئة محددة) وتردد قائلة في هدوء حذر: أعرف أنك من المباحث وأدعو الله أن يقصفك وينهيك أنت وهم!

أقسم بالله أنني كنت في حالة أشبه بمن صعق بتيار كهربائي.. لذا كانت ردة فعلي على ما قالت بطيئة نوعاً ما.. إذ فعلاً احتجت ثواني حتى أستعيد ما قالته.. ثم احتجت لثوانٍ أخرى حتى أفكر في مدلولاته.. وحتى حدوث ذلك كانت الأخت الكريمة قد أسرعت فارَّة ودخلت أحد مباني الجامعة.. وفكرت.. كيف يمكن لأحدنا أن يردد ببساطة ودون أن يكلف نفسه بالتحقق من مقولات هائلة بهذا الحجم؟؟؟ وما أسهل الرمي بالتهم سواء كانت أيدولوجية أو تصنيفية أو دينية أو سياسية أو تخوينية.. وما أسهلنا في التقاطها وترديدها في المجالس ولن نسأل حتى أنفسنا: هل لدينا حتى دليل واحد على ما نردد؟؟ وحتى فعلاً لو كنت متعاونة مع المباحث فما الدليل الذي يُمكن أن يعرفه أي أحد وبالذات في مثل هذه المسائل الدقيقة حتى يمكن إثبات أو نفي لائحة الاتهام؟؟؟!!!

عالمنا اليوم يؤمن ويفرض مفهوم التواصل على كافة الأصعدة سياسية واقتصادية ومالية وتعليمية وثقافية بل نحن في الحق لا نستطيع أن نعيش من دون هذه الفكرة إيماناً وتطبيقاً على كافة المستويات ورغم أن الدولة نفسها وأجهزتها التي (ينظر لها) على أنها حساسة قد تخلت عن سياساتها القديمة المفرطة في الحذر وفتحت أبوابها أمام الصحافة والباحثين من كل بلد بل إننا نلمس في السنوات الأخيرة تشجيع أجهزة الدولة المختلفة لبرامج التبادل الثقافي والتعليمي ولدعم برامج الزيارات المتبادلة للباحثين والصحفيين وللمؤسسات العالمية والإنسانية والمعنية بحقوق الإنسان إلا أن الكثيرين منا سواء كانوا أفراداً أو داخل الأجهزة ما زالوا عاجزين عن التحرك من مواقعهم القديمة وما زالت سياسات الارتياب والشك في الأجنبي ومحاولة التستر والتغطية (وكأن لدينا شيئاً نخفيه) هي القائمة وتحتاج إلى ألف إذن وألف دمغة حكومية حتى يُمكن لك أن تفتح أبواب المؤسسة العامة لصحفي أو زائرة أو باحث؟

ما هو الأفضل؟ أن نرفض زياراتهم ونعتذر بعدم الحصول على الموافقة الرسمية لأسباب بيروقراطية.. أم أن نفتح لهم أبوب مدارسنا وجامعاتنا ونريهم الجيد والممتاز والأقل من جيد كما هي الصورة في كل بلد.

إن خدمة هذا الوطن تتحقق من خلال قنوات مختلفة ويؤديها كل بطريقته ومن خلال ما أعطاه الخالق من قدرات إذا امتلك الرغبة في الخدمة العامة.. فمنا من يحقق ذلك من خلال حسن سلوكه وإخلاصه في عمله.. وفينا من يحققه من خلال القدرة على التعامل مع أجهزة الإعلام العالمية.. وفينا من يحققه من خلال الكتابة.. وفينا من يحققه من خلال العمل التطوعي أو برامج البحث العلمي المشترك... إلخ من أوجه التفاعل والثراء التي تفجرها الإمكانات الفردية لدى المواطنين وتصب في النهاية لخدمة هذا الوطن الجميل.

ألا يحق لنا أن ننادي بأن غادروا مناطق التخوين.. افتحوا أذرعكم لاستقبال العالم.. وتعالوا معاً نخلق كوناً دافئاً ومسالماً يُوجد فيه مكان آمن لكل مختلف ومختلفة!!




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد