Al Jazirah NewsPaper Monday  18/08/2008 G Issue 13108
الأثنين 17 شعبان 1429   العدد  13108

الحبر الأخضر
معقول!!
أ. د. عثمان بن صالح العامر

 

يحفل تاريخنا العربي بالكثير من المواقف والأحداث الشخصية والمجتمعية التي يقف عندها القارئ كثيراً ويتساءل في قرارت نفسه عن حقيقة هذا الفعل ومصداقية الناقل له (المؤرخ والراوي) وما ذاك إلا لما يجد في ذاته من غرابة وشكوك حيال هذا الموقف أو ذاك واتجاه هذا الرجل أو تلك المرأة.. طبعاً جاعلاً المعيار الذي يحكم فيه على الحدث المروي واقعه الذي يعيشه والبيئة من حوله...

.. ومن هذا القصص العديدة التي تحتاج إلى قراءة وتوقفت عندها كثيرا أضع بين يدي القارئ الكريم هذه المجموعة المختارة بلا تعليق وهي بحق تحتاج إلى قراءة تأملية واعية ومقارنة دقيقة بينها وبين واقعنا المعاش اليوم.

* حبس الحجاج يزيد بن المهلب على خراج وجب عليه مقداره مائة ألف درهم فجمعت له وهو في السجن، فجاء الفرزدق يزوره فقال للحاجب: استأذن لي عليه، فقال: إنه في مكان لا يمكن الدخول عليه فيه. فقال الفرزدق: إنما أتيت متوجعاً لما هو فيه ولم آت ممتدحاً فأذن له، فلما أبصره قال: أبا خالد ضاقت خراسان بعدكم وقال ذوو الحاجات: أين يزيد؟

فقال يزيد للحاجب: ادفع إليه المائة ألف درهم التي جمعت لنا، ودع الحجاج ولحمي يفعل فيه ما يشاء، فقال الحاجب للفرزدق: هذا الذي خفت منه لما منعتك من دخولك عليه، ثم دفعها له فأخذها وانصرف.. ولما خرج يزيد من السجن زمن عمر بن عبدالعزيز مر بعجوز أعرابية فذبحت له عنزاً فقال لابنه: ما معك من النفقة؟ قال: مائة دينار، فقال الأب: ادفعها لها!! فقال الابن: هذه يرضيها اليسير وهي لا تعرفك، فقال يزيد: إن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي!!

* لما قُدم هدبة للقتل بحضرة مروان بن الحكم، قالت زوجته: إن لهدبة عندي وديعة فأمهله حتى آتيه بها فقال: أسرعي فإن الناس قد كثروا، وكان مروان قد جلس لهم بارزاً عن داره فمضت إلى السوق وأتت إلى قصاب فأخذت منه شفرة فجدعت أنفها وقطعت شفتها، ثم أقبلت حتى دخلت بين الناس، فقالت: أتراني يا هدبة متزوجة بعد ما ترى؟! فقال: الآن طابت نفسي بالموت، فجزاك الله من حليلة وفية خيراً.

* قال معن بن زائدة: ما رأيت قفا رجل قط إلا عرفت عقله! فقيل له: فإن رأيت وجهه؟ فقال: فذلك حينئذ في كتاب أقرأه!

* يقال إن من عادات أهل مرو وأهل خراسان أنهم إذا ترافقوا في سفر يشتري كل واحد منهم قطعة لحم، ويشكها في خيط يربطها فيه ويجمعون اللحم كله في قدر ويمسك كل واحد منهم طرف خيطه فإذا نضج اللحم جر كل منهم خيطه وأكل لحمه وتقاسموا المرق!

* قالت النوار امرأة حاتم الطائي: أصابت الناس سنة أذهبت الخف والظلف وضنّت المراضع عن أولادها لا تبض بقطرة وقد أخذني وإياه الجوع وأسهرنا في ليلة من الليالي فتضاغ الصبية وتصايحوا جوعاً، فقام حاتم إلى الصبيين وقمت إلى الصبية وجعلنا نعللهم حتى ناموا بعد هدأة من الليل، فأقبل إلي يحدثني ويعللني حتى أنام، فرفقت به لما به من الجوع، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال لي: أنمت؟ فلم أجبه، فسكت ونظر في فناء الخباء، فإذا شيء قد أقبل فرفع رأسه فإذا امرأة، فقال: ما هذا؟ فقالت: يا أبا عدي جارتك فلانة، وقد أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب جوعاً، فما وجدت معولاً إلا عليك أبا عدي! فقال لها: أحضريهم، فقد أشبعك الله وإياهم، فرفعت رأسي وقلت: يا حاتم بماذا تشبع أطفالها! فو الله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقال: والله لأشبعنك وأشبعن صبيانك وصبيانها، فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي بجانبها أربعة، فقام إلى فرسه فذبحه ثم أجج ناراً ودفع إليها شفرة، وقال: قطعي واشوي، وكلي وأطعمي صبيانك، فأكلت المرأة وأشبعت صبيانها، وأيقظت أنا أولادي وأكلت وأطعمتهم، فقال حاتم: والله إن هذا لهو اللؤم، تأكلون وأهل الحي حالهم مثل حالكم؟! ثم أتى الحي بيتاً بيتاً يقول لهم: انهضوا، عليكم بالنار فاجتمعوا حول الفرس وتقنع حاتم بكسائه وجلس ناحية البيت، فو الله ما أصبحوا وعلى وجه الأرض من لحم الفرس قليلاً ولا كثيراً إلا العظم والحافر، ووالله ما ذاق حاتم منها مضغة وإنه لأشدهم جوعاً!!

* قال عباس بن دهقان: ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحارث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه واستعار ثوباً ومات فيه!!

* وحكى الأصمعي، قال بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت:

أيا معشر العشاق بالله خبروا

إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع

فكتبت تحته:

يداري هواه ثم يكتم سره

ويخشع في كل الأمور ويخضع

ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوباً تحته:

فكيف يداري والهوى قاتل الفتى

وفي كل يوم قلبه يتقطع

فكتبت تحته:

إذا لم يجد صبرا لكتمان سره

فليس له شيء سوى الموت أنفع

ثم عدت في اليوم الثالث فوجدت شاباً ملقى تحت ذلك الحجر ميتاً فقلت (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ووجدته قد كتب قبل موته:

سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا

سلامي على من كان للوصل يمنع

أتمنى أن القارئ الكريم استمتع بما ورد أعلاه وعرف الخيط الرفيع الرابط بين هذه القصص جميعاً وأجاب بنفسه عن السؤال الذي ربما جاء على باله وهو يقرأ هذه السطور: ترى لماذا جاء هذا المقال، وفي هذا الزمن بالذات؟

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6371 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد