Al Jazirah NewsPaper Monday  18/08/2008 G Issue 13108
الأثنين 17 شعبان 1429   العدد  13108
السياحة والفقر والقمع
د. عبدالرحمن الحبيب

مسكينة تلك الدول التي تضع أنظمة صارمة لحماية السائح من الاستغلال وهي في نفس الوقت تستغل مواطنيها الفقراء! ومسكينة هي حين تضع أنظمة في المواقع السياحية لتسهيل الإجراءات فيطبقها أناس مقموعون يتلذذون بممارسة القمع.

في إحدى الدول العربية كنت في مجرى سباحة لا يصل عمقه متراً واحدا، أقود ابنتي ذات السنتين وهي بداخل إطار هوائي (لستك)، فأطلق المراقب الصافرة علي وطلب مني أن أرتدي إطاراً، فقلت له: إن ارتديته لن أستطيع أن أحمي ابنتي من الغرق، قال: القانون يقول على الجميع أن يرتدي الإطار.. قلت: لماذا؟ قال: لا أدري! قلت: لن أخاطر بحياة ابنتي من أجل قانون أنت لا تعرف لماذا وُضع! فطُردتُ وابنتي من المسبح.

في نفس البلد، أردت أن أدخل متحفاً علمياً للأطفال، كانت زوجتي وبناتي سبقوني بدقائق في الدخول، فأوقفني الحارس، وقال: ممنوع الدخول بدون أطفال، قلت: عائلتي في الداخل، فامض معي كي تراهم، قال: لا! معك أطفال تدخل، ما معك ارجع! أما موظفو الاستقبال الذين كانوا يشاهدون المنظر بكل برود، فقد طلبت منهم التوسط أو أن يمضي معي أحدهم حتى أصل لعائلتي، لكن لم يلتفتوا إليّ.

وأيضاً، في ذات البلد، دخلت مع عائلتي لموقع أثري روماني، وكان التفتيش عند البوابة صارماً ومزعجاً.. وبعد حصولنا على التذاكر، أخذوا من بناتي قوارير المرطبات، وقالوا ممنوع دخول أي مادة زجاجية.. فسألت مندهشاً: لماذا؟ قالوا هذا القانون، قلت: لماذا؟ قالوا: لا ندري، ربما لأنها مادة حادة! قلت: انظروا للأرض أمامكم في الداخل مليئة بالعلب الزجاجية المكسورة.. قالوا: هذا القانون!!

المضحك أنه في هذا البلد حصل أن طلبت من مطعم للوجبات السريعة أربعة أفخاذ دجاج، فرد البائع: لا يمكنك ذلك، فكل وجبة فيها فخذ وجناح وصدر.. قلت: لا أريد سوى الأفخاذ، قال: إذن عليك أن تطلب أربعة وجبات وتأخذ الأفخاذ وتدع الباقي! قلت ضاحكاً: بطني الذي يحدد وأنا الذي سأدفع، فكيف تحدد لي نوعية وكمية الوجبة التي أريدها؟ قال: هذه قوانين الشركة!

سأستمر مع نفس هذا البلد بالقصص.. مرة وأنا مع عائلتي ذاهبون لمكان تاريخي جميل وناءٍ، وقفنا عند دورية تفتيش فتشوا السيارة بصرامة، ثم سأل العسكريُ السائقَ: أين هوية من معك؟ قلت له: جوازاتنا ليست معنا، ولم أعرف أنها يفترض أن تكون معنا.. فقال بجلافة: عودوا من حيث أتيتم! جاوبته نحن سواح جيران وأشقاء لكم مع أطفالنا ذاهبين إلى موقع تاريخي لا أحد تقريباً فيه فما الخطر في ذلك؟ قال: احمد ربك، فلولا أطفالك لحجزتك في المخفر!

وصادف أن سهرت مع أحد المسؤولين هناك، وقلت له ما واجهته من تعقيدات، وأنها تنفر السائح، فقال: أنت متعلم ومحترم، المفروض أنك تحترم القانون، لأنه وضع لحماية الناس والسواح في هذه الفترة التي نعاني منها من إرهاب.. قلت: لكن المبالغة تشعرنا أننا في ثكنة عسكرية ولسنا في سياحة! قال: أنت تبالغ، فعندما يتجاوز الموظف حدوده، عليك أن تشتكيه، فلدينا أنظمة صارمة لصالح السائح.. قلت: أنا ذاهب للسياحة وليس للمطالبات الحقوقية، فتلك احتاجها وقت الأزمات، وليس في أوقات ترفيه ومتعة!

وإذا افترضنا مثلما قال المسؤول السابق أن هناك دواع أمنية لا بد من تقديرها، فهناك أنظمة عديدة تُتعب السائح ولا علاقة لها بالأمن قدر علاقتها بالقمع، والفهم السلبي لمعنى القانون.. المشكلة في المجتمعات العربية أنه عندما تصدر القوانين لا يستشار ولا يُفهَّم المسؤولون الذين يشرفون على الموظفين الذين سيطبقون القانون، لماذا صدر هذا القانون؟ فلا هؤلاء المسؤولون ولا الذين يطبقونه يعرفون لماذا صدر.. فماذا يبقى غير الاستنتاج القمعي لهؤلاء، أو في أحسن الأحوال الاستنتاج السلبي: لا ندري!

القوانين الفعّالة تأتي بالمشورة واقتناع الذين يطبقونه وليس بالأمر الفوقي المفاجئ.. في بلاد عربية عديدة، كثير ممن طلبت منهم بلباقة أن يذكروا لي سبب هذا القانون أو ذاك الذي يبدو بالنسبة لي غريباً، قالوا لي: هذا هو القانون، ولا ندري لماذا.. وربما يجتهدون ويعطون مبررات يتوقعونها، ولكن لا يعرفون تحديداً لماذا.

يقول البعض إن سبب ذلك هو الفقر.. ففي بلد سياحي غالبية سكانه من الفقراء ستواجه طوال الوقت تعقيدات من أجل أن تدفع لفك هذه التعقيدات.. فالبعض يعيش على استنزاف ميزانيتك السياحية، وهذه التعقيدات مصطنعة لا علاقة لها بالقوانين ولا بطريقة فهمها.. وبالتالي فتلك ضريبة من يسافر إلى بلد سياحي فقير اقتصاديا.. فعليك أن تدفع هذه الضريبة أو لا تأتي لهذا البلد.

لكن حتى في البلاد العربية الغنية يحدث مراراً هذا النمط القمعي لفهم القانون.. مرة في مطار دبي وهو من أغنى المطارات في العالم وأجملها، تمت بسهولة عجيبة مصادرة مقص صغير جداً (أصغر من إصبع اليد) لي دون مشورتي، فقلت للموظفة التي صادرته: لماذا؟ فقالت: "مو شغلك!" فابتسمت، وقلت: هذه المادة تخصني وأنتِ صادرتها، كيف "مو شغلي"؟ فلم ترد! قلت: أين المدير المناوب؟ فأشارت بيدها لجهته.

فذهبت إليه، وكان هناك معه موظفة وموظف وحكيت له، فقال: هذه هي الأنظمة، قلت: لماذا؟ قال: لا أعرف! قلت هذه المادة تخصني، وفي مطارات عديدة أُخذت مني وأُعيدت لي بالعودة عند النزول من الطائرة.. فنظر لي باستغراب نتيجة مطالبتي بمقص صغير تافه!! فقالت الموظفة: نحن كل يوم نصادر مئات المقصات ولم يشتكِ أحد؟ قلت: هم أحرار إن لم يطالبوا بحقهم، أو لعلهم لا يعرفون أن هذا حقهم، أو ببساطة لأنهم منهكون من السفر.. أما أنا فلستُ منهكاً وأعرف حقوقي ولا أريد أن أتنازل عن حقي مهما كان صغيرا.. لم يردوا علي، وأصبحوا كأنهم لا يسمعونني، ووجوههم تقول بكل بساطة أنت ومقصك لا شيء!

قلتُ لهم: منذ زمان وأنا أرغب أن أكتب عن أساليب القمع السياحي في البلاد العربية، وكان يمنعني أن أغلب تلك البلدان التي تمارس القمع هي بلدان فقيرة، أما وقد حدثت معي هنا قبل ذلك ثم تكررت معكم، فإني لا محالة سأكتبها.. ثم خرجت منكسراً محبطاً، فناداني الموظف الآخر الذي لم يتكلم وقال باستهزاء: في أية جريدة سوف تكتبها؟

كسائح عندما تستفسر من مسؤول عربي عن حقك في معرفة سبب قانون تظن أنه مجحف، أول ما يتبادر لذهنه هو التعجب من سؤالك! فليس من حقك أن تعرف، لأن هذا المسؤول نفسه لا يعرف ولم يسأل! وعندما تقول له إن ذلك حقي، فهو يتعجب أكثر من جرأتك في هذا الحق الذي لا يملكه هو.. وعندما تظن أنك تحرجه وتقول: إن هذه المعاملة تسبب سمعة سيئة وخسارة اقتصادية لبلده يكون الرد أبرد من الثلج، وكأنها ليست بلده!



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد