Al Jazirah NewsPaper Saturday  23/08/2008 G Issue 13113
السبت 22 شعبان 1429   العدد  13113
فن الليبرالية في (تأديب) المرأة السعودية
محمد بن عيسى الكنعان

أستطيع أن أقول وبثقة يصدقها الواقع إن (الليبرالية السعودية) - التي هي أحدث التجليات الليبرالية على الساحة الفكرية العربية - تعيش في ظلام ثلاثة أوهام: (وهم التيار) أي اعتقاد الليبراليين السعوديين أنهم يشكلون

..تياراً في أوساط المجتمع، رغم أنهم مجموعة أفراد لم تصل لمستوى نخبة معتبرة، و(وهم التأثير) أي اعتقادهم أن لهم تأثيراً فكرياً واضحاً في تحولات المجتمع السعودي، رغم أنها تحولات فرضتها المستجدات العصرية (المدنية)، خاصةً في المسائل التقنية والإعلامية التي أعادت تشكيل كثير من عاداتنا وقيمنا، أما الوهم الثالث فهو (وهم التطبيق)، الذي يهمنا بالدرجة الأولى في ثنايا هذا المقال، كونه (المحك الحقيقي) للأفكار الليبرالية سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، خاصة أن الليبراليين السعوديين يعتقدون أن أفعالهم وأقوالهم تمثل الأنموذج الليبرالي الصادق للفكرة الليبرالية الحقيقية.

فإن كان الوهم الأول قد أسقطته الانتخابات البلدية في دورتها الأولى قبل أكثر من سنة، والوهم الثاني بددته التوجهات الإصلاحية في المملكة، القائمة على المزج بين مدنية العصر وحكم الشرع، بما يحفظ للمملكة مكانتها الإسلامية الريادية، كونها دولة حديثة بأساس ديني إسلامي وبُعد محافظ في مسائل العادات والتقاليد المرتبطة بالبيئة العربية، فإن (الوهم الثالث) قد كشفت عورته الوقائع الحياتية، والمواقف الشخصية التي صدرت وتصدر من قبل شخصيات ليبرالية سعودية طالما تحدثت بلغة (التنوير) وحقوق الإنسان وبالذات حقوق المرأة التي يرونها مهمشة المشاركة ومسحوقة الكرامة، بسبب تيارات التخلف والرجعية والظلامية.. إلى غير ذلك من قاموس الليبرالية الهجين، ولعل أقرب شاهد واقعي على سقوط الوهم ما تردد في وسائل الإعلام خلال الأيام الفائتة، عن قيام أحد كتاب التنوير وأدعياء الليبرالية، الذي يعمل مديراً لإحدى القنوات الفضائية الناشئة ب(ضرب) وإن شئت الدقة (دبغ) إحدى المذيعات السعوديات العاملات في القناة إثر خلاف حاد نشب بينهما.

هنا لن أكرر مقالات التقريع والأسف والشماتة، التي لحقت بالزفة الإعلامية لهذه الواقعة، وهي تستفهم عن حقيقة الكاتب والإعلامي الليبرالي الذي طالما تحدث عن حقوق المرأة ومكانتها الاجتماعية وكرامتها الإنسانية، كيف وصل به الحال إلى التعدي والضرب، أي كيف وصل إلى أقصى قمة التناقض بين (التنظير بالحقوق الإنسانية) و(التطبيق بالإيذاء الجسدي)، إنما محاولة رسم صورة لفداحة الواقعة، التي ربما حاول البعض التقليل منها بحجة آفة الغضب أو الخطأ البشري، وارتباط تلك الصورة بمسألتين مهمتين تتعلقان بالليبرالية السعودية ومن ينضوي تحت عباءتها، والمسألتان هما (أزمة الخطاب الليبرالي) و(حقيقة فهم الليبرالية) من قبل من يسمون أنفسهم بالليبراليين، وبينهم وبين الليبرالية الحقيقية بُعد المشرقين.

بالنسبة لفداحة الواقعة التي لا يمكن قبول كل التبريرات للتقليل منها أو التهوين من أبعادها الاجتماعية، فإنه يجب أن نراعي (نقطة محورية) في هذه الواقعة الجديدة في الوسط الإعلامي، وهو أن (التعدي) لم يصدر من إنسان عادي تجاه من يقع تحت رعايته الشرعية، كما يحدث من قبل الأب المتحجر، أو الزوج المتسلط، أو الأخ المتهور، إنما من (رجل قيادي) كونه مدير قناة تلفزيونية، و(كاتب تنويري) كونه يكتب في واحدة من كبريات الصحف العربية عن الحقوق الإنسانية والمبادئ الحضارية، و(إعلامي مسؤول) كونه يخاطب الدنيا فكرياً عبر تقنيات الفضاء المفتوح، والاعتداء تجاه من؟ تجاه امرأة كل ذنبها أنها تعمل معه وتحت إدارته! والمكان أين؟ في مقر القناة، أي في مكان العمل وأمام الملأ. هكذا هي الليبرالية عندما تستجيب لقانون الغابة، تشطح فتنطح، هكذا هي الليبرالية عندما تمارس التأديب (الإنساني)! يكون رد فعلها جنونياً.

لذا كنت ولازلت أؤكد أن الخطاب الليبرالي السعودي في أزمة حقيقية، لأنه لم يستطع أن يوفق بين المبادئ الحضارية التي يدعو لها من خلال الفكر الليبرالي، وبين التطبيقات الواقعية التي يمارسها. والسبب أنه يجهل حقيقة الليبرالية التي تدعو للحرية (المسؤولة)، وتنطلق من تقرير (النزعة الفردية) المحكومة بالقانون وعدم التعدي على الآخرين، وقبل كل ذلك قناعة غائرة بالإنسانية النقية من الايدولوجيا المتعفنة.



kanaan999@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد