Al Jazirah NewsPaper Monday  25/08/2008 G Issue 13115
الأثنين 24 شعبان 1429   العدد  13115

لماذا تدعم أمريكا الصهاينة؟ -1-
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

يعرف كل متابع للأحداث؛ ماضياً وحاضراً، أنه ليس كل اليهود صهاينة، فمن اليهود من يعارضون دينياً قيام دولة لهم، ويرون في قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين مخالفة لأساس دينهم. ومنهم من برهنوا على اتخاذ مواقف نبيلة عادلة تجاه ما يرتكبه ذلك الكيان المتغطرس من جرائم بحق الفلسطينيين

، لكن هؤلاء وأولئك ليسوا مؤثرين في مسيرة الأحداث تأثيراً ذا شأن. ذلك أن التيار العام السائد لدى اليهود المؤثر في سير الأحداث هو التيار المتبنيّ للصهيونية وهو المعني بما تحويه هذه المقالة.

ويعرف كل متابع للأحداث حق المعرفة دعم الإدارات الأمريكية المتعاقبة للصهاينة قبل إقامتهم كيانهم العنصري الإجرامي على أرض فلسطين وبعد إقامتهم إيّاه عليها. ويعرف أيضا أن جذور ذلك الدعم عميقة وأركانه راسخة. ولقد كتب الكثيرون عن هذا الموضوع واتفقت آراؤهم حول أسبابه أحياناً واختلفت أحياناً أخرى. أما كاتب هذه السطور فمقتنع بأنه لا فرق بين قادة أمريكا المتصهينين وزعماء الصهاينة أنفسهم في الموقف من قضايا أمتنا، وفي طليعتها قضية فلسطين؛ بل إن الطرفين وجهان لعملة واحدة في معاداة هذه الأمة، وارتكاب الجرائم ضدها. ومما عبّر به عن هذا الاقتناع قوله في إحدى قصائده:

سيَّان قادة أمريكا - وإن جحدوا

وطغمة لبني صهيون تنتسبُ

على أن مبعث كتابة هذه المقالة قراءة لمقالة كتبها الباحث الأردني الفلسطيني، خالد الحروب، في صحيفة الحياة بتاريخ 9-8- 1429هـ - 10-8-2008م بعنوان (جذور الدعم الأمريكي لفكرة قيام إسرائيل) ومقالة هذا الباحث الكريم جيدة في مضمونها وفي عرضها للآراء حول ما كتب عنه. وقد بدأ مقالته بالإشارة إلى الدراسة الجريئة التي قام بها الأكاديميان الأمريكيان، جون مير شايمر من جامعة هارفرد، وستيفن والت من جامعة شيكاغو، حول اللوبي الإسرائيلي في بلديهما، وما أثاره نشر تلك الدراسة من ردود فعل، وما عانياه من مضايقات جرّاء نشرها. وذكر أن هناك إجابتين عن سبب التأييد الأمريكي المندفع والأعمى لإسرائيل، الأولى قوة اللوبي الصهيوني في أمريكا، والثانية طبيعة سياسة أمريكا الإمبريالية.

على أن الباحث الكريم، الحروب، يذكر أن الباحث وولتر ميد من مجلس الشؤون الخارجية في نيويورك يعطي إجابة ثالثة؛ وهي أن السياسة الأمريكية انعكاس لما يسمّيه (الصهيونية الأمريكية)؛ أي التأييد الشعبي والوجداني المتجذّر في الشعب الأمريكي لفكرة قيام إسرائيل. ومن أسباب ذلك التجذّر المهمة جداً تشابه نشأتي الدولتين الأمريكية والإسرائيلية من حيث كون كل منهما دولة مهاجرين.

وبعد إيراد الباحث الكريم، الحروب، نظرة الباحث الأمريكي ميد بإيجاز راح يوردها بنوع من التفصيل. وقد عزا هذا الأخير - في تفصيله - التأييد الأمريكي الجمعي للصهاينة إلى ستة عناصر. أولها الرؤية المسيحانية لدى المحافظين - ويسميهم الكثيرون المحافظين الجدد بينما يفضل كاتب هذه السطور تسميتهم المتصهينين - من الشعب الأمريكي، التي ترى في عودة اليهود إلى فلسطين استكمالاً للنبوءات الدينية المسيحية. وثاني تلك العناصر الرؤية الليبرالية الموصوفة بالتقدمية، أيضا التي ترى أن اليهود تعرضوا - عبر التاريخ - لاضطهاد، وأن مشروع الحداثة الغربي لا يكتمل بدون رفع ذلك الظلم عنهم والتكفير عنه. وثالث تلك العناصر تماهي صورة قيام دولة إسرائيل وسيرورته مع صورة قيام دولة أمريكا وسيرورته. فالبروتستانت المسيحيون هربوا من جحيم الاضطهاد الكاثوليكي في أوروبا لإنشاء كيان مثالي في العالم الجديد.

واليهود هربوا من الاضطهادات في العالم إلى عالمهم الجيد - القديم لإنشاء وطن مثالي أيضا. ورابع العناصر أن تأييد إسرائيل التوراتية يوفر مبررا لكل جرائم أمريكا الاستيطانية من لحظة قيامها عن طريق خلق اقتناع بأن أمريكا هي في الواقع إسرائيل الجديدة. ولذلك فتأييد قيام إسرائيل يعزّز شرعية قيام أمريكا ذاتها في وجدان أفرادها.

أما العنصر الخامس للتأييد الأمريكي الجمعي لإسرائيل - في نظر الباحث وولتر ميد - فخاص بالأمريكيين الأفارقة واليساريين؛ وذلك خلال النصف الأول من القرن العشرين. فالأفارقة يشاركون اليهود في كونهم مضطهدين، واليساريون رأوا في إنشاء المستوطنات اليهودية في فلسطين تجسيداً للأفكار الاشتراكية. وأما العنصر السادس المشكل للرؤية الأمريكية الجمعية المؤيدة لإسرائيل فهو الاقتناع بوجوب التضامن مع الدولة اليهودية الصغيرة المهددة من أعدائها.

وما ذكره الأستاذ الكريم خالد الحروب عرضاً لما أوضحه الباحث الأمريكي وولتر ميد، صحيح في مجمله وقد سبق إلى ذكره عدد من الكتّاب على أن مما يحتاج إلى مزيد من العناية في كلام ذلك الباحث هو إيضاح العوامل التي أدت إلى اقتناع الأمريكيين ببعض ما اقتنعوا به. فمن المعلوم أن الصهاينة برعوا في استعمال وسائل الإعلام استعمالاً يخدم مصلحتهم، وبرعوا في بسط نفوذ كبير لهم في دنيا المال؛ وفي ذلك ما فيه من قوة استخدمت لتحقيق تلك المصلحة، وبرعوا في السيطرة تقريباً على صناعة السينما، وللسينما ما لها من تأثير لا يستهان به في تكوين المخيلة الجمعية للشعوب. ويمكن التعليق على ما ذكره الباحث ميد من عناصر أدّت إلى التأييد الأمريكي للصهاينة بما يأتي:

العنصر الأول هو الرؤية المسيحانية لدى المحافظين من الشعب الأمريكي، التي ترى في عودة اليهود إلى فلسطين استكمالاً للنبوءات الدينية المسيحية، وهذا واضح وتمتد جذوره حقيقة إلى نشأة المذهب البروتستانتي نفسه، الذي دعا إلى الاعتماد على العهد القديم (التوراة) أكثر من الاعتماد على العهد الجديد (الإنجيل). فتسربت بذلك إلى العقيدة المسيحية الأدبيات اليهودية المرتكزة على ثلاثة أمور: أن اليهود شعب الله المختار، وأن هناك ميثاقاً ربانياً يربطهم بالأرض المقدسة في فلسطين، وربط الإيمان المسيحي بعودة المسيح المنتظر بعودة تجمع اليهود في فلسطين. وممن كتب عن هذا الموضوع كتابة جيدة الأستاذ محمد السماك في كتابيه (الصهيونية المسيحية، والدين في القرار الأمريكي). وقد نشرت قراءة لكلٍ منهما على انفراد في هذه الصحيفة (الجزيرة)، ثم نشرت تلك القراءة ضمن كتابي الذي عنوانه (كتابات عن التصهين).

العنصر الثاني من العناصر التي أوردها الباحث الأمريكي ميد هو الرؤية الليبرالية، التي ترى أن اليهود تعّرضوا - عبر التاريخ - لاضطهاد، وأن مشروع الحداثة الغربي لا يكتمل بدون رفع ذلك الظلم والتكفير عنه. والذي يقرأ ما كتبه فلاسفة وكتّاب غربيون مشهورون يجد أن بعضهم يذكرون أسباباً جعلت كثيراً من الشعوب تكره اليهود، فيتحول ذلك الكره، أحياناً، إلى معاقبتهم أو ظلمهم فالمفكر (كانت) يقول عنهم: إنهم أمة من المرابين يخدعون الشعب الذي يؤويهم. والمفكر اليهودي برنارد لازار، الذي عاش في فرنسا خلال القرن التاسع عشر، يقول: (لو كان الكره لليهود قد ظهر في زمن معين وبلد معين لكان من السهل معرفة الأسباب المحلية لهذا الموقف. لكن كون جميع الأمم التي عاشوا فيها، تكرههم معناه أن السبب فيهم أنفسهم وليس في الذين يكرهونهم).

بل إن هرتزل، الذي يعد أبا الصهيونية الحديثة ومهندسها، يبلور هذه الفكرة بقوله: (اللا سامية - وهي كره الناس لليهود - ردّ فعل مفهوم على عيوب اليهود).

وبغض النظر عما إذا كانت تصرفات بعض اليهود في المجتمعات التي عاشوا فيها من أسباب الكره لهم، ومن ثمّ حدوث الظلم عليهم، أو لم تكن فإنهم لم يكونوا وحدهم الذين ارتكبت ضدهم أنواع من الظلم. لكن مهارتهم استطاعت أن تسيطر على مخيلة الأمريكيين الجمعية ومخيلة الشعوب الأوروبية أيضا بحيث بدوا وكأنه لم يظلم غيرهم.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد