Al Jazirah NewsPaper Monday  25/08/2008 G Issue 13115
الأثنين 24 شعبان 1429   العدد  13115
الأولمبياد.. معركة التنافس البريء وغير البريء!
د. عبدالرحمن الحبيب

هو أكبر مشهد عالمي تنوعاً بشرياً وثقافيا.. مئات الألوف يتوافدون إليه، ومئات الملايين تتوجه أنظارهم لأحداثه، ومليارات تصرف، وتتنافس الدول على تنظيمه رغم أنها قد تسبب لها خسائر اقتصادية، كما يحصل عادة، باستثناء الأولمبيادين الأخيرين.. وتتعارك الدول لحصد أكبر عدد ممكن من الميداليات.

التنافس في مجال التفوق الرياضي قد يصل أحيانا إلى درجة عنيفة.. ففي تراثنا العربي يتمثل لنا ذلك في حرب داحس والغبراء.. داحس حصان قيس بن زهير والغبراء فرس حمل بن بدر الذي أوعز لنفر من أتباعه أنهم إن وجدوا داحسا متقدما أن يردوه على وجهه كي تسبقه الغبراء، فلما فعلوا وتقدمت الغبراء وتكشف الأمر، اندلعت حرب دامت أربعين سنة! مع أني ممن يرى أن هذا ليس سبب لمعركة عنيفة بل شرارة لحرب كانت جاهزة للاندلاع.

لذلك لم يكن غريبا أن تعتبر فترة النشاطات الرياضية والألعاب الأولمبية اليونانية القديمة عبارة عن هدنة مقدسة يحرم فيها أي اقتتال، وكان يعاقب كل من يحاول عرقلة سير الألعاب أو إعاقة المشاركين أو الوافدين إلى جبل أولمبيا حيث تقام الاحتفالات في ستاد ضخم يتسع لأربعين ألف متفرجا.. وهذه الهدنة وصلت مدتها إلى ثلاثة أشهر يعم فيها الإخاء والسلام بين اليونانيين وتزدهر التجارة.

ولكن في الوقت الحاضر زاد الاهتمام بالأولمبياد وتخطى المسألة الرياضية والاقتصادية إلى مسائل قيمية وأخلاقية وسياسية.. فهل يعد الاهتمام بالأولمبياد مبالغاً فيه بالرياضة، أم أنه ظاهرة حضارية وصحية؟ كما هو معروف الوظيفة الأولى للرياضة هي الوظيفة الجسدية الصحية (العقل السليم في الجسم السليم).. فالرياضة تنمي المهارات الجسدية وتطوير القدرات الفردية لمواجهة الأخطار والتحديات والحوادث الحركية التي تواجه الإنسان في حياته، بمعنى زيادة قوة وسرعة رد الفعل الجسدي عند حصول حادث أو مكروه.

والرياضة داعم للاندماج الاجتماعي السلمي والتلاحم الداخلي لأفراد المجتمع والتآخي الخارجي مع مجتمعات وشعوب أخرى.. ويوجه تركيز الرياضة إلى الفئات العمرية الأكثر تمردا وهي المراهقين والشباب في سبيل التخفيف من حدة تمردهم وتوظيف طاقاتهم الجسدية الهائلة في نشاطات نافعة.. والأنشطة الرياضية تساهم في تحويل العداء تجاه الآخر، وغريزة العنف إلى حالة تفرغ هذا الحس إلى أسلوب سلمي مقبول اجتماعيا، لذا تعد إحدى الوسائل للسيطرة على العنف، لأنها تحوله من تطبيق واقعي مؤلم ومؤذي إلى لعبة للتنافس السلمي الشريف.. فإذا كان هناك تنافس سياسي شرس جداً بين أمريكا والصين، فليتم التعبير عنه بطريقة سلمية: التنافس الرياضي، ولتوضع الأسلحة النووية في مخابئها!

فهل الرياضة الدولية بريئة لهذه الدرجة؟ ليس تماما.. فهناك رياضات تعتبر غير إنسانية، ولا تزال تقام كالملاكمة التي ذهب ضحيتها المئات.. وهناك ممارسات ضد الجسد كتناول المنشطات وممارسة التمارين القاسية جدا غير الصحية وغير الإنسانية.. وهناك تكتلات وتحالفات بين منظمات ودول تدخل في حمى صراع التنافس الرياضي بطريقة غير شريفة.. وهناك حذر من أن تتحول الرياضة بسبب العولمة إلى نوع من التخدير الجماعي خاصة في طريقة التعامل الاستهلاكي التجاري للأبطال الرياضيين..الخ.

فالثقافة الغربية الحديثة التي أعادت إحياء الأولمبيات اليونانية القديمة، تمثل الرياضة - بالإضافة إلى ما ذُكر - أبعادا يدخل فيها نموذج (السوبرمان) الإنسان الخارق أو الإنسان الكامل جسديا، واعتبار هذا الإنسان نموذجا يحتذى في المخيلة الثقافية، ليتحول إلى أنموذج إعلاني تجاري في منتجات الصحة والتجميل من رشاقة وأناقة.. وفي زمن العولمة حيث يتم تحويل كل شيء إلى سعلة، يتحول البطل الرياضي إلى سلعة، باعتباره غاية استهلاكية نموذجية خاضعة لقانون العرض والطلب، تتأثر بطريقة أداء هذا البطل ومستوى الجاذبية الإعلامية فيه. وهنا ينبغي التمييز بين الرياضة كنشاط صحي ضروري وأساسي في حياة الفرد والمجتمع والتنافس الرياضي كعملية اجتماعية ضرورية في نشاط المجتمعات من جهة، وبين الرياضة كدعاية إعلانية (سلعة) تروج لها كبريات الشركات العولمية.. ومهما كانت براءة الرياضة، فإن السياسيين لن يسمحوا لها أن تكون بريئة.. يحتشد في الأولمبياد كل أربع سنوات أكبر تجمع بشري ثقافي واجتماعي واقتصادي.. وهي فرصة لا تترك من قبل الساسة!

التصاق السياسة بالأولمبياد ليس جديداً.. فالدول التي تفوز بالمسابقات الرياضية، تعمل قدر جهدها إلى تحويلها نحو انتصار سياسي.. حتى الدول التي لم يعترف بها في هيئة الأمم المتحدة، بحثت عن هذا الاعتراف في الأولمبياد، كما فعلت هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا في عام 1912 لأن الفوز بميدالية يعني إطلاق النشيد الوطني والعلم، وهما رمزا السيادة الوطنية.. وقبل الحرب العالمية الثانية عام 1936 كانت ألمانيا النازية بزعامة هتلر تراها مناسبة لتنظيم الألعاب الأولمبية من أجل إظهار تفوق العرق الآري والإيديولوجية النازية، وكان هتلر نفسه يراها مسألة مصيرية أن تظهر ألمانيا تفوقها الرياضي.. وفي عالمنا العربي كان دخول فلسطين كدولة عضو في اللجنة الدولية الأولمبية سنة 1994 ذا دلالة في تزامن هذا الاعتراف غير الدبلوماسي بفلسطين مع اتفاقية أوسلو وإعلان الدولة الفلسطينية.. حتى فرنسا عندما فازت بكأس العالم لكرة القدم لسنة 1998 تم تقديم الانتصار في كثير من وسائل الإعلام الفرنسية كانتصار لعاصمة التنوير (باريس) وللبرالية الفرنسية.. (محمد بو هرو).

ومنذ اقترب موعد الأولمبياد وحتى إقامتها والنظام الصيني يواجه ضغوطا سياسية متزايدة في مسألة الحريات وحقوق الإنسان، وكانت الصين لدى فوزها عام 2001 بتنظيم الأولمبياد الأخير قد تعهدت بتحسين وضع حقوق الإنسان وأنها تتبنى اللبرالية السياسية بشكل تدريجي.. وقبل الأولمبياد بأسابيع اعتبرت القيادة الصينية أن حصولها على أكبر عدد من الميداليات يعد هدفا استراتيجيا مقدسا!! فيما أعلن جورج بوش أن أمريكا يجب أن تحافظ على تقدمها في حصد الميداليات كما هي دائما متفوقة.. إذا كانت الرياضة بهذه الدرجة من الأهمية البالغة.. فلماذا لا يتم تقديرها واحترامها في العالم العربي؟ حيث مادة الرياضة في المدرسة مجرد وقت تسلية بلا قيمة حقيقية! ولماذا الدول العربية لا تهتم بالرياضة كما ينبغي باستثناء كرة القدم؟ المفترض أن يتم تغيير النظرة العربية للرياضة بالتوعية ودعم مشروعات الثقافة والنشاط الرياضيين في المجتمع وفي أحياء المدن والبلدات.. وفي المدارس ينبغي زيادة حجم مواد التربية البدنية ودعمها مادياً وتقنياً وعلميا، واعتماد التربية البدنية كمادة نجاح ورسوب بالمدارس.. ودعم التعاون بين الجهات التربوية والرياضية.. وإنشاء مسابقات رياضية بين المدارس تحت اتحاد رياضي للمدارس يروج لهذه المسابقات ويدعمها.

صحيح أن التنافس الرياضي العالمي ليست عملاً بريئاً تماما، بل عنوان للقدرات والمهارة والإبهار والنفوذ.. لكن الصحيح أيضاً أن هذا التنافس أصبح ضرورة اقتصادية وسياسية واجتماعية.. البطل الرياضي هو صاحب موهبة لا تقل أهمية عن كافة المواهب الأخرى العلمية والفكرية والأدبية والفنية.. وفوائد هذه الموهبة لا تقل نفعاً عن كافة المواهب الأخرى.



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد