Al Jazirah NewsPaper Tuesday  26/08/2008 G Issue 13116
الثلاثاء 25 شعبان 1429   العدد  13116
مكْمن الجمال في القصيدة المعاصرة 2-3
د. حسن بن فهد الهويمل

ولكل ناقد وجهته فيما تتحقق به الجمالية، وقبل المضي في التماس مكامن الجمالية، يجب أن ننظر في إشكالية الجمال من حيث هو مجرداً من مواقعه أو متلبساً بها: ما هو؟، وما آليات التماسه؟ وما محققاته؟، وما مدى النسبية فيه؟.

ومتى علمنا أن النسبية أكثر ما تكون في التذوق، فالمتلقي يمنح العمل الإبداعي قيمته الجمالية من خلال وجهة نظره المحكومة بالنسق الثقافي والبيئة بكل تنوعاتها ومستوياتها، والمرحلة العمرية بكل نوازعها والميل الشخصي بكل تفرده وأجواء اللحظة التي يتم فيها التذوق الجمالي.

وقد يكون من المستحيل في ظل هذه الفوارق أن يجمع النقد الأشتات على كلمة سواء، ثم لا يكون تحقق الجمال من خلال قواسم مشتركة أمراً متعذراً، وتنبؤ الاستحالة لا يمنع من المحاولة، معذرة إلى المشهد الصاخب، ولعل المنكفئين على أنفسهم يستمعون الرؤى، ويستوعبون مختلف التصورات، وقراءة القصيدة المحلية لغرض استجلاء جمالياتها، قد يضع الناقد في الحرج لأن المحلية لا تمتلك الامتياز بالقدر الكافي، إذ هي متفاعلة مع معطيات المشهد العام، محكومة بذوقه الأشمل.

والدراسة الحصرية زماناً ومكاناً ونوعاً إبداعياً تحكم الدارس، ولا يحكمها، لأنه يظل حبيس أجوائها ومعطياتها، ومع أنها تمثل المقطع الأدق للجس والسبر، إلا أنها ترتهن الدارس، وتحرمه لذة الاختيار المفتوح، والعقود الثلاثة الأخيرة في المشهد الأدبي المحلي حفلت بعدد كبير من الشعراء الشباب الذين استهلك التجريب والتغريب طائفة منهم، ولم يفرغوا للتأصيل بالقدر المأمول، وهي عقود غنية من حيث الكم والتنوع، ولكنها دون ذلك من حيث الكيف، وداء المشهد من الشعراء الأحداث المغامرين، وأدواء المشاهد كثيرة، لعل من أخطرها الخلطة التي لم تمكن من التمييز بين المجرب المقتدر والمستغرب المسترفد، وإذ نعيب التقليد ولا نفرق بينه وبين المحافظة المقتدرة، فإننا لا نسم المقلدين لتطرف الحداثة الغبية بما نسم به المحافظين أو المقلدين للتراث، وكان حقاً علينا أن نخدع بدعوى التجديد ما لم يكن مبادرة من عند أنفسنا واستجابة عفوية لمقتضيات المرحلة.

والتجديد الآخذ بمحققاته يعد من حتميات الحياة، إذ لا حياة سوية مع الثبوتية والنمطية، والتجديد بمفهومه السليم يتطلب إمكانيات متعددة تخلص المبدع من النمطية وعقدة الأبوية، وتأخذ بناصيته حيث لا يجنح إلى المحاكاة، فالمشهد ينزع إلى المعاصرة، ولكن الرغبة المجردة لا تحقق التطلع، وحقيق بنا أن نسوي بين نزعة التقليد وداء التبعية. على أن استفحال التمسك بالقديم أو القطيعة معه بطأتا فترة الارتباك والتردد وفوتتا فرصاً ثمينة، وحالتا دون التحولات الإيجابية، وإن كان ثمة إمكانيات لإبداع القصيدة المعاصرة المتوفرة على مقومات التألق.

إن عدداً من الشعراء الشباب يمتلكون الموهبة، ولكنهم لا يتمتعون بالاستقلالية، ويتوفرون على المواقف الضاغطة، ولكنهم يفتقرون إلى الثراء اللغوي والعمق الثقافي والتجارب الواعية، ومن ثم يأتي الشعر مرتبكاً، وغير ناهض بمتطلبات المرحلة ولا بمحققات الشعرية، ومتى فقد الشاعر محققات الإبداع، جاءت القصيدة منطفئة وغير مثيرة، وفقد المحققات أو بعضها حمل الموقفيين من النقاد على مساءلة الشاعر الحديث، ومحاسبته على إخفاقاته، أو اعتزال المشهد مكتفين بالاحتجاج الصامت، فيما تدافع الوصوليون على الكسب المظهري الرخيص، واستهلكتهم محاولات يائسة لتبرير ما حدث، وفي ذلك إجهاض للفعل الشعري الذي كان بإمكانه أن يحدث نقلة نوعية، لو أن النقاد صدقوا الشعراء، وأبانوا عن مقترفاتهم وإخفاقاتهم، وسيان عندي انتهاك الشرط الدلالي أو الشرط الفني.

والجمالية التي نسلم لها، ولا نجد منها غضاضة في حق الشعر حين نقبل بها ونؤكد على مشروعيتها هي التي لا تصادر حق الذائقة العامة، ولا تسلب الشعر جوهره، وحين نؤكد على مراعاة جوهر الشعر فإننا نعرف حجم الاختلاف حول مفهوم الجوهر وحدود الضوابط، وهذا التشتت في الآراء لا يمنع من الخوض مع الخائضين في التماس (مفهوم الشعر) بوصفه طريقاً قاصداً لمفهوم الجمال، ولقد كانت للأوائل والأواخر نظرات متباينة حول حدود الشعر، ولكنها نظرات غير متدابرة، ولعل القاسم المشترك في التراث النقدي يكمن فيما عرف ب(عمود الشعر العربي).

وإشكالية العمود ليست بمفرداته السبع، ولكنها بتحديد كل مفردة، وفي نسبة الثبات والتحول فيها، ولو أخذنا بمفردتين هامتين مفردة حسية تتمثل بالوزن والقافية ومفردة معنوية تتمثل بالقيم الأخلاقية لوجدنا الاختلاف حولهما على أشده، ومكمن الجمال، في المفردات الحسية كالانزياح والإيقاع والجرس، وأعني بالانزياح اللغوي ما هو متعلق بمراعاة الفواصل والتناسب، ولقد أدرك العلماء قوادح الجمال وعالجوها في سائر العلل العروضية.

لقد تقصى (جابر عصفور) خلاف النقد التراثي حول (مفهوم الشعر)، وحاول التقريب بين وجهات النظر، ومجمل عرضه يدور حول اللغة والشكل والمعنى، فيما تقصى (محمد مريسي الحارثي) خلاف النقد التراثي حول (عمود الشعر)، وحاول تجلية الرؤية التراثية، وكلا الدارسين يدور حول تحقيق جوهر الشعر في ظل التحولات الجذرية في القصيدة الحديثة، وإن لم يعرضا لها بصريح العبارة، وكل منظر يطرح رؤيته تاركاً الباب مفتوحاً أمام المصطرعين، حول مشروعية القصيدة الحديثة بكل تحولاتها وتنوعاتها.

إننا ونحن نتحدث عن جماليات القصيدة المعاصرة يجدر بنا أن نستشعر ما تعانيه من أزمات، أدركها المباركون لها، والمتشايلون مع ذويها، وإذ لا نجد مجالاً للإطلاقات المعممة فإن التسليم لها، والقول بتألقها دون النظر في أزماتها مجازفة لا تخدم الحركة الإبداعية، والناقد مؤتمن لأنه بمثابة المستشار، وحين نختار أحد النجدين يتنازعنا حق وواجب: حق الاختيار، وواجب القسط في القول، وحين نسلم بوجود الأزمة نتساءل أين مكمنها؟ ومن المنطق أن نسأل ذا خبرة ومعرفة ممن رابه ما تعانيه القصيدة.

فالناقد (شكري محمد عياد) والشاعر الناقد (عبدالعزيز المقالح) استحضرا الأزمة كعنوان لكتابين يلتمسان فيهما مكمنها في أبعاد متعددة تتعلق باللغة وبنائها والتجربة ومحفزاتها، ويبقى (شكري) أكثر إحساساً بجوهر الشعر فيما يفترض (المقالح) كمونه في الذات الشاعرة التي لا يمكن أن تنتج شعراً بدون جوهره، فما جوهر الشعر أهو (الوزن) كما يسميه (شكري) أم هو (البيتية) كما يسميه (المقالح)، والتحول من الأزمة إليها يأتي عبر مراحل ثلاث افتراضية، أدت إلى تسميةٍ تضج بالتناقض كما يقول (المقالح) وهي (قصيدة النثر).

ولقد كان لي حديث مستفيض حول إشكاليتها، وما كنت لأسلم لهذه الظاهرة، لأنها تفقد الجوهر وتلغي التميز، ولا تضيف تعويضاً يتكافأ مع التنازلات العريضة، والذين تخلوا عن الجوهر الشعري لم يأتوا بمثله، وعندئذ فحجتهم داحضة.

إن الجمالية عصية الانقياد، وهي إذ تلم بالشاعر في قصيدة أو في أبيات من قصيدة فإنها تفارقه في قصائد كثيرة، ورديء شعر العمالقة يشهد على ما أقول، فهذا (المتنبي) له شعر رديء، بل هو أردى الرديء وله شعر متألق، ولم تقدح الرداءة في شاعريته، ومخاض القصيدة لكي تكون جميلة لا بد أن تكون مكتنفة بموهبة وتجربة وثقافة وأجواء وثراء لغوي، وتخلف شيء من ذلك يكون على حساب الجماليات، والجمال لا يكون وقفاً على مكوّن واحد، فلا هو في الوزن ولا القافية وإن غاب بغيابهما، ولا هو في اللغة الشعرية وحدها وإن غاب بغيابها إنه التناسق والتوازن، ولكل شاعر قسط من الجمال يقل ويكثر، ولكنه كائن لا محالة.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد