Al Jazirah NewsPaper Tuesday  26/08/2008 G Issue 13116
الثلاثاء 25 شعبان 1429   العدد  13116
التهديد الفكري بين مناقب المتصدِّي له ومثالبه
اللواء الركن (م) سلامة بن هذال بن سعيدان

بادئ ذي بدء فإن الأمة التي تدرك سر وجودها في الحياة، وتعرف شرف رسالتها، وتحترم مفهوم إنسانيتها، هي أمة قادرة على رسم مسارها وشق طريقها في شتى المجالات ومختلف الميادين نحو بلوغ أهدافها وتحقيق غاياتها بحيث يتسلم الخلف مهمة السلف، والأمانة تنتقل من جيل إلى جيل

عبر مسيرة الأجيال المتعاقبة، دون أن تخدعها لذة نجاح أو تشغلها نشوة نصر أو يطفئ حماسها مرارة فشل أو ألم هزيمة.

والأمة التي هذا وصفها تكون جديرة بأن يسمو شأنها ويرتفع مكانها بفضل اتباع الهدى، واجتناب الهوى على النحو الذي يديم عليها أمنها، ويحفظ لها وزنها، ويجعل التوفيق حليفاً لها لقطف ثمار اجتهادها والفوز بحصادها، مستلهمة عزمها وحزمها من شرائع دينها ولزوميات مصالحها المعتبرة، أما الأمة التي تُقصِّر في هذا الجانب وتفرِّط فيه فهمتها فاترة، وغاياتها قاصرة والدوائر عليها دائرة.

وليس ثمة أمة تستطيع أن تعيش بمفردها، وتتحمل أعباءها لوحدها، وتصول وتجول كيفما وحيثما يحلو لها بل قضت حكمة الله ونواميسه في كونه أن يكون هذا الكون مكاناً ومستقراً لجميع الأمم على اختلاف معتقداتها وثقافاتها، وتعدد حضاراتها وكثرة إثنياتها وأعراقها الأمر الذي جعل الحياة مسرحياً لتنافر المعتقدات، وتصادم القناعات وتعارض الانتماءات، والتجاذب بين المصالح والرغبات، وما ينتج عن كل ذلك من احتدام المواجهة بين العقول تلك المواجهة التي تتحول أحياناً إلى صراع بين العضلات، وما يعنيه هذا الصراع من البدء بمقابلة الفكر بالفكر والانتهاء بالصراع المسلح، وارتباط كل منهما بالآخر باعتبار الأول يبرر حدوث الثاني في حين أن الثاني يعتبر أداة لفرض الأول.

والتهديد الذي يواجه الأمة يتعين عليها أن تحدد طبيعته، وتعرف كنهه، وما هي الوسائل المستخدمة فيه والأساليب المتبعة لتنفيذه حتى يتسنى لهذه الأمة تبنِّي التهديد المضاد واختيار استراتيجية العمل المعاكسة حيث إن التصدي للتحديات والأخطار يستدعي إخضاعها بجميع ملابساتها وأسبابها ومسبباتها للمفاضلة العقلية بالطريقة التي تكون معها تحت المحك ورهن الفحص والتدقيق، ومن ثم إجراء الموازنة بين الخيارات المتاحة لمواجهة التهديد من جانب، وبين الوسائل والأساليب المطلوبة للتنفيذ من جانب آخر على ضوء طبيعة هذا التهديد ونوعيته ودرجة خطورته، وما هي حيثياته ومواطن القوة ومكامن الضعف فيه.

ومن أصعب المراحل في تاريخ الأمة وأخطرها أن تجد هذه الأمة نفسها مهددة فكرياً وعسكرياً بحيث يهددها الغزو الفكري في عقيدتها، وينال منها الفكر الدخيل في ثوابت دينها وآداب دنياها، وهذا التهديد الموجه إلى فكر الأمة وقناعاتها يظاهره ويقف خلفه الكثير من التحديات الوطنية والقومية والعديد من التهديدات الأمنية التي تنضوي تحت لواء التهديد العسكري في غياب التهديد المضاد، وما يعنيه هذا الغياب بشقيه المادي والمعنوي من التأثير على دعائم الأمن الوطني المتمثلة في الاستقرار والاستمرار والازدهار.

وبما أن التهديد الفكري لا يقاوم إلا من خلال الفكر السليم، وسلامة الفكر مرهونة بصلاح الأمة واستقامة مسلكها وبعدها عن الفساد، بوصف صلاح الأمة يوفر لها شيئاً من الحصانة ضد الغزو الفكري، ويصلح فكرها ويجعله مقبولاً عند الآخرين، بينما فسادها يؤدي إلى فساد فكرها ويقضي على مصداقيتها، ويمنع غيرها من الاقتداء بها.

والفساد في مفهومه العام لا يخلو منه أي مجتمع، ويتخذ أشكالاً متعددة وله مظاهر متنوعة، ولكن أخطر أنواعه هو الفساد الذي يمارس على مستوى مؤسسات ذات مسؤولية تجاه الأمة، وبالتحديد الفساد الإداري الذي يتجسد في صورة حية ومشاهد كثيرة يتناقلها الركبان، ويتحدث عنها الناس في كل مكان فضلاً عن الممارسات التي يمكن تعميمها واعتبارها ظاهرة داخل المجتمع، وهذه الممارسات بقدر ما تضعف الأمة وتحجب عنها أسباب التطور بقدر ما تشوه ذكرها وتنال من فعالية فكرها، وتجعل الأنظار تنظر إليها من زاوية مظلمة.

ومن الفساد المحسوب ما يظهر على تصرفات بعض شرائح المجتمع من علامات ودلائل تكشف عن همم فاترة واهتمامات قاصرة تعطي انطباعاً عكسياً عن تردي واقع الأمة وتدني مستواها سلوكياً وعلمياً وثقافياً وحضارياً خاصة وأن هذه الممارسات ليست مقصورة على أصحابها، بل تنعكس على الأمة بأكملها راسمة أمام غيرها صورة سلبية عن هذه الأمة، يحكم الآخرون بموجبها عليها حكماً يقلل من شأنها، وينعكس مردوده على دينها وفكرها ومكانتها بين الأمم.

وينبغي ألا يغرب عن البال أن القوة الاقتصادية هي عصب الحياة، ومحور الارتكاز الذي تتمحور حوله عوامل القوة الكلية للأمة بجوانبها العسكرية والسياسية والعلمية والثقافية، كما يدل حسن استغلالها على نزاهة الأمة وعدالتها ومستوى الإدارة فيها مما يجعل مناقبها تغطي مثالبها ويضفي على فكرها القبول، ويؤهلها للتصدي للتهديد، والاستخدام السليم للثروة يضع الأمة في الموقع المناسب الذي تستطيع بفضله تحقيق أمنها الكلي بعد أن بلغت مستوى متقدماً من تحقيق الأمن الجزئي على الصعيد الفكري والعسكري.

وبما أن العمل يعلِّم أكثر من القول، وكما قيل: المثل خير معلم فإن الفكر المضاد حتى يقبل أصحابه فكر الأمة وتتوفر لديهم القناعة بمصادره ومرجعيته لا غنى عن أن تضع هذه الأمة من نفسها قدوة حسنة، وأن يشهد فعلها على قولها، جامعة بين الأقوال والأفعال بالصيغة التي تحافظ عن طريقها على تكريس الصالح وإصلاح الفاسد، كما تجعل من ممارستها عوامل جاذبة ودوافع مغرية تحفز الآخرين على اتباعها وقبول قناعاتها واعتناق ما تدعو إليه مع تجويد الفعل بالقول الذي تتوفر له مقومات البيان وقوة الحجة، وتعزيز الدراسة بالممارسة من خلال الدليل القاطع والبرهان الساطع، وما يعنيه ذلك من اعتبار الدين هو المرجع والأساس للمعاملة والتعامل ومكارم الأخلاق، وكل ما من شأنه النهوض بالأمة والوصول بها إلى المكان الذي أراد لها خالقها.

وتأسيساً على ذلك فإن إنجازات الأمة الإسلامية وانتصاراتها في عصورها الذهبية وتاريخها المشرق، وامتلاكها لناصية أمن التهديد، ماسكة بزمام الأمن الفكري والأمن العسكري رغم تواضع الإمكانات ومحدودية القدرات، ما كان لهذا الأمر أن يحصل لولا فهمها لدينها، والتمسك به وتطبيق تعاليمه في الأمور التعبدية والدنيوية مما أتاح لهذه الأمة حكم البلاد والسيطرة على العباد، بحيث دانت لها الدنيا، وسعد بها الشقي، وقوي بها الضعيف، وتحولت من أمة صغيرة إلى حضارة مترامية الأطراف، يشع منها نور العلم والمعرفة وتحتل مكان الصدارة وموقع السيادة في العالم.

والواقع أن الأمة الإسلامية عندما كانت تمثل أمة واحدة، وتنطلق في عبادتها من منطلقات سامية ذات أهداف نبيلة، وتستمد قوانينها من القرآن والسنة فإن دينها أصبح عزيزاً وشوكتها قوية، واستتب الأمن في أوطانها، وتحققت فيها مقاصد الشرع والمصالح المعتبرة، وبالتالي قوي سلطان الأمة تحت مظلة العدل والأمن وهابها الأعداء، جامعة بين أمن التهديد والتهديد المشروع، وبمجرد أن اختلفت وتشرذمت إلى عدة دول وذهبت ريحها، وانفصمت عرى الدين التي كانت تجمعها عندئذ انقض عليها الأعداء من كل جانب وفرقتها الفتن والأهواء والسياسات الاستعمارية، وخرج الأمر من أيديها، وبات أمنها الفكري مهدداً، وأمنها العسكري مقعداً.

وبالطبع فإن الذي أدى إلى صلاح أول الأمة لا يصلح آخرها إلا به، فالمحافظة على الدين ومحاربة الأفكار الهدامة والانحرافات الفكرية، والحرص على أن تكون كلمة الله هي العليا بعيداً عن التطرف والهروب من الشيء والوقوع في نقيضه كل هذه الأمور وغيرها هي السبيل إلى بلوغ المستوى المطلوب من الأمن الفكري الذي يضمن صلاح فكر الأمة والارتقاء به إلى مصاف عقيدتها ورسالتها الإنسانية، وبالتالي يصمد أمام الفكر الآخر، واضعاً الحق في نصابه، وحاسباً للحوار حسابه.

والتهديد الفكري الذي يتربص بالأمة في عقيدتها، ويهددها في أمور دينها ودنياها يعتبر على درجة بالغة من الخطورة التي تفوق إلى حد كبير ذلك الخطر المترتب على التهديد العسكري حيث إن التهديد الموجه إلى فكر الأمة يجري في وقت السلم، كما يتم في زمن الحرب، وله صور متعددة وأشكال متجددة، وتارة يكون معلناً، وتارة أخرى ينفذ في الخفاء، بالإضافة على تعدد مصادره وتراكم مستوياته وتنوع جهات توجيهه ناهيك عن كثرة الوسائل والأدوات التي ينفذها بها وغموض بعض الأساليب المتبعة في عملية التهديد الفكري، والتواء بعضها، واعتبار الغاية فيها تبرر الوسيلة.

وسواء أكان هذا التهديد الفكري غربياً أو صفوياً أو تكفيرياً فإنه في بعض الدول الإسلامية وصل إلى درجة متقدمة من الاختراق الذي يمس عقيدة الأمة ويؤثر على دينها مما يتطلب مواجهته بالفكر الذي يبطل مفعوله من جهة، ويحقق اختراقاً معاكساً له من جهة أخرى حسب قاعدة: الجزاء من جنس العمل، فالفكر لا يتصدى له إلا الفكر والوسائل والأساليب الكفيلة بإحداث التأثير المطلوب لابد من الاستفادة منها إلى أبعد حد، والتصدي للفكر الضال يفرض على المتصدي أن يكون هجومياً وأن يمتلك أسلحة التصدي وأدواته، حتى يواجه الحجة بالحجة، ويدفع الباطل بالحق، متوسلاً الوسائل الصالحة، ومتبعاً الأساليب الناجحة.

ومن الواضح أن أصحاب الفكر الدخيل تمكنوا من بعض النجاح وحصلوا على بعض الأهداف في دول إسلامية معينة نتيجة للطرق التي سلكوها والأساليب التي اتبعوها بحيث جعلتهم كل هذه الأمور يتجاوزون التهديد الفكري المجرد إلى الممارسات الفعلية في الدول المستهدفة دون أن يبدو من هذه الدول أية مؤشرات تدل على وجود استراتيجية مضادة لمواجهة التهديد القائم ودرء الخطر القادم.

وعلماء الأمة يقع عليهم الجزء الأكبر من المسؤولية تجاه الهجمة الشرسة التي تتعرض لها أمتهم، والتي يتسربل بعض مصادرها برداء الدين، وهذه المسؤولية تجعل هؤلاء العلماء في المعترك وتضعهم تحت المحك بوصفهم أصحاب الاختصاص وواجباتهم تفرض عليهم مواجهة الفكر المنحرف وتوضيح مخاطره وكشف نوايا أصحابه وتعرية دخائلهم وماذا يبيِّتونه ضد الأمة؟ كما يتحمل الإعلام هو الآخر مسؤوليته في هذا الجانب إذ يتحتم عليه بجميع أنواعه ووسائله المستخدمة أن يعري هذا الفكر الذي يهدف أصحابه إلى امتطاء الدين والقضايا الإسلامية لتحقيق أهداف مذهبية وسياسية.

وبالنسبة للشعوب فقد آن الأوان لتستيقظ من غفلتها وتنهض من كبوتها، مدركة ما يحاك حولها بهدف النيل من عقيدتها والانقضاض على أوطانها، متخذة من هذه التحديات حافزاً لنفض غبار الكسل والعزوف عن الملذات، وفي الوقت نفسه الإقبال على العمل والتحلي بروح المواطنة، كل بحسب موقعه والواجب الذي يؤديه مع التحصن ضد المؤثرات والمغريات التي جلبتها الفضائيات ووسائل الإعلام ومصادر المعلومات الهدامة، والبعد عن التقليد الأعمى والسير وراء كل ناعق.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد