Al Jazirah NewsPaper Thursday  28/08/2008 G Issue 13118
الخميس 27 شعبان 1429   العدد  13118
مقاصد الشريعة
عبدالله بن محمد السعوي

منذ اللحظة الأولى لتشكل منظومة الفقه الإسلامي وهي مرتبطة وعلى نحو وثيق بمقاصد التشريع تتغيا تجسيد معالمها شأنها في ذلك شأن أي مشاريع تشريعية تتوخى تحقيق الصوابية لذاتها

إذ إن تحقيق النجاح يتعذر إلا إذا أوكت حبالها بغاية أسمى تروم معانقتها وهدف سامق تبتدع الآليات للتعلق به، وتحيله بعد ذلك روحا يسري في كيانها ومعقولا ينتظم أحكامها.

فإذا كان في أصول القوانين الوضعية ثمة مايسمى ب(إرادة المشرع) فإن في أحكام الفقه الإسلامي مايسمى ب(مقاصد الشريعة) وثمة بون شاسع لصالح الثاني ولاشك، وقد قام علماء أصول الفقه بجهود جليلة القدر وصرفوا جهودهم للبحث في المقاصد والتقعيد لها والتأصيل لمبادئها من أبرزهم في ذلك (الشاطبي) في كتاب (الموافقات) و(العزبن عبد السلام) في كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) و(الطاهربن عاشور) في كتاب (مقاصدالشريعة) المقاصد التي هي المعاني والأهداف والحكم الملحوظة للشارع في تشريعه للأحكام أو معظمها كما هو تعريف الطاهربن عاشور هي التي تنطلق الشريعة باتجاهها والخالق - جل في سماه- شرع أحكامه لتحقيق مصالح العباد باستدعاء النفع لهم ووقايتهم من الضرر والادلة على ذلك أكثرمن أن تحصرفهوسبحانه متصف بالحكمة ومن كان شأنه ذلك فهومنزه عن العشوائية والقالب العبثي {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}أيضا فإن الآدمي مخلوق مكرم ومفضل على غيره من الكائنات {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ومن كرم أحداً اشتغل على تجسيد مراده وتأمين البعد المصلحي الذي مردوده عليه بالنفع. أيضا فإن الباري سبحانه خلق العباد ليحققوا مفهوم العبودية بمدلولها الأعمق بأن صيرهم خلائفه في الارض وناط بهم إعمار الكون {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وبما أنه أوجد الإنسان لهذه الغاية فمن الطبيعي والشأن كذلك أن يزيل كل عائق في طريق عبوديته وأن يوفرله مصالحه ويذلل كل وعر يضر به ليغدو من ثم على درجة عالية من الصفاء الذهني الذي يمكنه بالتالي من تأدية ما أمربه؛ أيضا فإن الله تعالى نعت ذاته الجليلة بكونه رؤوفاً رحيماً بخلقه { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ومن كانت هذه صفته فلاشك أنه لن يشرع الا ما يتضمن المصلحة وينأى عن نقيضها الذي هو باطل بنص الآية أيضا فإن الله سبحانه ذكرغايته في تحقيق مصالح الانسان صراحة في نصوصه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } أيضا فالشارع الحكيم علل تشريعاته في متباين تفاصيلها بمصالح بني الإنسان فشرع القصاص لأن فيه (حياة) وشرع الصوم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وشرع الوضوء لا { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ} وشرع الصلاة لأنها { تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} وكما ذكرالشارع العلة من الأحكام فقد نهى عما نهى عنه لما فيه من مضار فنهى عن سب الذين يدعون من دون الله حتى لا { يَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} هذه المصالح تتنوع من حيث قوتها وأثرها في ترشيد الشأن العام للأمة وتنقسم بحسب ذلك (إلى ما هي في رتبة الضرورات وإلى ما هي في رتبة الحاجات وإلى ما يتعلق بالتحسينات) انظر (المستصفى 1-286).

هذا التقسيم انبعث متكئا على الاستقراء كما يقرر ذلك (الشاطبي) الذي يؤكد على أن الدليل هو (استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة) انظر (الموافقات ج2-36).

هذه المراتب الثلاث المصالح الضرورية والمصالح الحاجية والمصالح التحسينية تنعت بكليات الشريعة فالمصالح الضرورية تتمثل في حفظ الكليات الخمس, حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فالدين يشكل بعداً مركزياً في حياة الفرد وبعدم التوافر عليه بحسبه الحقيقة الأعمق في الوجود ينتفي أساس وجود الإنسان فيختل مكانه في الكون وتضطرب علاقته بالكائنات من حوله فحفظ له بعدان, بعد يتعلق بتكوينه واستمراره وبعد يتعلق بدفع كل ما من شأنه تشكيل خطر عليه وقد عمل الشارع الحكيم من أجل المحافظة على جناب الدين على تشريع الإيمان وإيجابه بأركانه وتشريع أصول العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج أيضا حافظ على الدين بدرء الخطر عنه فشرع الجهاد حماية لبيضته وأوجب قتل المرتد التارك لدينه.

أيضا حافظ الشرع على النفس ومن جهتين أيضا, جهة الوجود وجهة العدم فمن جهة الوجود أجاز للفرد أن يتناول من الطعام ما يقيم صلبه ويضمن استمرار حياته بل وحظر عليه تجنب ما يكون في تفويته ضرر على النفس لأن هذا يترتب عليه إزهاق للروح جاء التشديد في النهي عنه {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وكما وضع الشارع الاطر الحافظة للنفس من ناحية الوجود فقد بلور التقنينات التي تحفظها من ناحية العدم بأن قنن القصاص وقاية للنفس ولمكوناتها من الضرر {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أيضا جاء حفظ العقل هو الآخر من الجهتين معاً فمن جهة الوجود فالشريعةُُ جعلت العقل محور اهتمامها وحضت على ترشيده والإعلاء من سويته عن طريق إثرائه من الناحية المعرفية ومده بأكبر قدر ممكن من طرائق التفكير والمبادئ الثقافية الصحيحة, وأما من جهة العدم فقد حرم الإسلام كل ما من شأنه التشويش على العقل وإرباكه والتقليل من قدرته على النظرة الموضوعية للأشياء فحظر الخمر وأمر بإقامة الحد على شاربها. النسل هو الآخركذلك جاءت الشريعة بحفظه من الجهتين كذلك فمن جهة الوجود شرع أحكام الزواج ووضع قواعد للارتباط النكاحي ومن حيث العدم حرم كل اتصال جسدي يجري خارج العلاقة الزوجية غير ملك اليمين فحظر الزنا, وبتّ كل علاقة قد تفضي إلى اجتراح موبقة.

كذلك المال كمحور للحياة ومقوم أساس من مقوماتها قد جاءت الشريعة بحفظه من جهة الوجود المتمثل بتشريع أصول المعاملات من (بيع) و(إجارة) و(رهن) و(وديعة) و(عارية) ونحو ذلك من العقود التي قننتها الشريعة للحفاظ على هذه الكلية من الكليات الخمس ثم أردف بتشريع بعض العقود على سبيل الاستثناء مراعاة لحاجات الناس ك(لقراض) و(السلم) و(المساقاة) وأيضا حافظت الشريعة على هذه الكلية من جهة العدم فأقرت حد السرقة وشرعت حد الحرابة لمن يعتدون على المال باختلاسه خفية أو أخذه عن طريق القهر والمغالبة.

وأما المصالح الحاجية التي (يفتقرلها من حيث التوسعة ودفع الضيق المؤدي في الغالب الى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب لكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة) (الموافقات ج2ص5).

فالشارع في مقاصده اعتنى بهذا الضرب من المصالح والاستقراء لأحكام الشريعة يوقف الناظر على نتيجة مؤداها أن حفظ الشارع للمصالح الحاجية شأن جار في العبادات والمعاملات والجنايات (الموافقات ج3 ص5).

أما المصالح التحسينية فهي تلك التي لا ضرورة فيها بحيث إذا اختلت ارتبك نظام الحياة ولا حاجة فيها بحيث إذا فاتت طال الناس أذى ولحقهم ضرر لكنها لون من المصالح إذا تخلفت تبيت حياة من فوتها مستقبحة في تصور العقلاء. انظر (أصول الفقه الإسلامي ) ل(وهبة الزحيلي 2-1023) والمصالح التحسينية بتعريف الشاطبي هي (الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ويجمع ذلك قسم مكارم الاخلاق) (الموافقات 2-6) وهي أيضا جارية في العبادات والعادات والمعاملات والعقوبات.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد