Al Jazirah NewsPaper Thursday  28/08/2008 G Issue 13118
الخميس 27 شعبان 1429   العدد  13118
مشاهدات سائح عربي
إسطنبول.. مدينة آسيوية أوروبية.. إسلامية علمانية
نور الدين العويديدي

بأجنحة بيضاء لا تعرف الكلل، ترفرف طيور النورس.. تلاحق العبارة الضخمة وهي تنزلق فوق مياه البوسفور.. تتلقف في الهواء بمناقيرها قطع الخبز أو البسكويت، التي يرمي بها الركاب القادمون من كل حدب وصوب إلى إسطنبول، حيث تبدو عليهم الفتنة بسحر المكان.. ويزيد رذاذ الماء وهو يتطاير على الوجوه في رفق ساحر، المشهد روعة وجمالا..

إنك هنا في إسطنبول حيث الخضرة والفخامة والوجوه الحسان، تُرى حيثما وليت وجهك. من أي موقع في هذه المدينة المبهرة تشاهد المآذن الشاهقة، والمساجد البديعة، بقبابها الرائعة، التي تنافس على بنائها عظماء السلاطين العثمانيين على امتداد قرون. وحين يؤذن للصلاة تصمت المدينة إجلالا لذي العزة والجلال، ولا يعلو فوق التكبير والتهليل والتحميد صوت.

مدينة على قارتين

إسطنبول مدينة المآثر والتاريخ الضارب بجذوره في عمق الزمن، ولكن التاريخ ليس وحده ما ميز المكان.. فالجغرافيا جادت عليها بكرم هائل قل له النظير.. فعلى قارتين تمتد إسطنبول.. وبين ثقافتين ونمطي حياة يتوزع أهلها. إنها مدينة تتربع على برزخ فاصل واصل بين آسيا وأوروبا، ومن ثقافتي القارتين معا ينهل أهلها.. كانت تسمى (إسلامبول) أي مدينة الإسلام، ثم صارت تسمى اليوم إسطنبول، ومع الدولة التركية الحديثة هُجرت كعاصمة لتحتل أنقرة مكانتها السياسية، دون أن تبلغ مستوى ما تتمتع به من رمزية وثقة وشموخ..

آيا صوفيا واحد من معالم المدينة الشهيرة.. كان كنيسة ثم صار مسجدا، ومع الدولة التركية الحديثة أضحى متحفا. لكن آيا صوفيا ليس الآية الوحيدة في قلب المدينة الأشهر في تركيا.. فالجامع الأزرق، أو جامع السلطان أحمد، ذي الصوامع المبهرة يجاور آيا صوفيا، ويقف في وجهها شامخا متحديا، باعتباره معلما خالصا للإسلام.. كذلك جامع السليمانية الذي بناه المعماري الأشهر في العهد العثماني سنان.. وحول المهندس سنان تنتشر قصص كثيرة بين الأتراك هي للأسطورة أقرب منها للحقيقة والواقع.

يمكن تعريف إسطنبول بوصفها مدينة المساجد.. ففي المدينة أكثر من 2500 مسجدا، من أحجام مختلفة. وتتميز المساجد السلطانية بتعدد مآذنها، فكلما كان للمسجد مئذنتان أو أكثر كان مسجدا سلطانيا. أما المساجد التي يقيمها الأهالي أو الأثرياء من الناس فهي ذات مئذنة واحدة. وترى في بعض المساجد، كمسجد السلطان أحمد ست مآذن، ترتفع عاليا في السماء.

مدينة واحدة وثقافتان

لكنه على الرغم من كثرة المساجد في المدينة، فإن ثمانين عاما من عمر الدولة التركية العلمانية قد ترك بصمات ثقافية واضحة لا تخطئها عين. وبذلك بات أهل إسطنبول مثل مدينتهم، يعيشون موزعين روحيا وثقافيا بين آسيا وأوروبا.. شكل الملابس ينبئك بأن الطريقة الأوروبية في اللبس هي الغالبة. لكن الحجاب يسجل حضوره في الشارع الإسطنبولي بشكل لا لبس فيه. في بعض شوارع المدينة تشعر وكأنك في باريس أو لندن أو أي مدينة أوروبية أخرى، حيث من المعتاد أن ترى شابا يقبّل صديقته أو حبيبته على مرأى من الناس ومسمع. أما إذا دخلت مسجدا، فتشعر أنك في مدينة آسيوية أو إفريقية، وكأنك في دمشق أو القاهرة أو الرياض أو مراكش.. حيث الشباب أكثر المصلين، وحيث تسجل اللغة العربية حضورا بارزا من خلال آيات الذكر الحكيم وتراتيل الابتهالات وألوان الأدعية.

معالم عثمانية عريقة

معالم إسطنبول السياحية يعود معظمها إلى العصر العثماني، ويعود بعضها إلى عهود أبعد مثل العهد البيزنطي أو الروماني أو حتى الإغريقي، لكن معالم الجمهورية الحديثة قليلة أو نادرة. والأدلاء السياحيون لا يكادون يذكرون معلما مميزا لتركيا الجديدة، وسائر الرحلات السياحية تنظم زيارات لضيوف المدينة إلى قصور السلاطين العثمانيين، مثل قصر (دلمه بهجت)، الذي كان مقر إقامة الخلفاء العثمانيين المتأخرين، أو قصر (توب كابي)، الذي أسسه السلطان محمد الفاتح، فاتح إسطنبول، واستمر مقرا لحكم الإمبراطورية العثمانية لأكثر من ثلاثة قرون، وتداول عليه نحو عشرين من سلاطين العثمانية. قصر (توب كابي) من أعظم معالم إسطنبول السياحية. وفي القصر أجنحة عديدة، تكشف عظمة السلطنة العثمانية. ففي القصر هدايا من مختلف بلاد العالم، من الصين والهند وفارس القديمة وسائر بلاد أوروبا. وفي القصر ركن يسميه الأتراك (الركن المقدس)، ويضم بردة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وأثرا لقدمه الشريفة في طين متحجر، وسيوفا لصحابة أجلاء، منها سيف خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب والزبير بن العوام وسيوف صحابة آخرين. وفي الركن أيضا بقايا يد محنطة، مغلفة بالمعدن إلا قليلا، يُزعم أنها لنبي الله يحيى عليه السلام، وعمامة بيضاء يزعم أنها للنبي يوسف عليه السلام، كما توجد عصا يزعم أيضا أنها عصا سيدنا موسى عليه السلام، التي استحالت حية تسعى، وهي آثار يغلب الشك عليها، ولا يمكن الاطمئنان إلى أنها تعود لأولئك الأنبياء الأجلاء عليهم السلام. مقام الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، المدفون رفاته تحت أسوار إسطنبول، والمعروف محليا باسم (سلطان أيوب)، لم نتمكن من زيارته في رحلتنا (الإسطنبولية). لكننا علمنا أن الأتراك يجلون هذا المقام إجلالا عظيما. وقال لنا دليلنا السياحي إن مئات الأتراك يأتونه من مدن مختلفة ليؤدوا فيه صلاة الصبح، فلا تجد في المسجد/ المقام موضعا ليس فيه راكع أو ساجد، بحسب ما علمنا.

صراعات ثقافتين

إسطنبول.. مدينة تجمع عالمين.. وتختصر قارتين، وهي اليوم متأرجحة بين هويتين وثقافتين.. بين هوية حديثة تغلب عليها الروح الأوروبية، وهوية موروثة تغلب عليها الروح الإسلامية.. والشباب الأتراك موزعون بين توجهين.. بين من يعيش نمطا غربيا من الحياة، وبين من تراه في مسجد راكعاً أو ساجدا، أو تراه عند قبر سلطان عثماني يتلو فاتحة الكتاب، حنينا إلى ماض أُريد له أن يخلد إلى قبر لا يقوم منه، لكنه يأبى أن يموت أو تطوى صفحته. إنها مدينة حكمت عليها الجغرافيا أن تكون آسيوية وأوروبية في ذات الوقت، وهي اليوم تجد نفسها مشتتة ممزقة بين عالمين لم يعرفا تصالحا بعد.. عالمان يختصرهما صراع الجيش مع الحجاب، وقصة حزب حاكم يحظى بأغلبية شعبية كبيرة، كادت محكمة دستورية تحيله عدما.. إنها قصة معاناة جيل لا يكاد السائح العابر يرى منها سوى وجهها الجميل.

كاتب صحافي من تونس



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد