Al Jazirah NewsPaper Saturday  06/09/2008 G Issue 13127
السبت 06 رمضان 1429   العدد  13127
درجة عالية من الندرة
د. فوزية البكر

كما يقول كونديرا في مزحته المهلكة -وهي إحدى رواياته العظيمة ككل ما كتب-: (لقد تأصل لدي عدم التصديق إلى حد أنه حين يفضي إلي امرؤ بما يجب أو لا يجب لم أكن أحمل هذا على محمل الجد أو لم أكن -بصورة أكثر دقة- أرى فيه سوى مجرد شهادة على الصورة التي يريد إعطاءها عن نفسه).

الحق أن مفردة (يجب) هذه هي من أكثر المفردات شعبية في قاموس استخدامنا الشخصي والعام، وهي منثورة داخل حياتنا وأحاديثنا....

وهي المفردة التي يلجأ لها كل سعودي حين يقابلونه في محطة الأخبارية فلا يعرف بماذا يجيب فيلتحق بنادي (يجب ويجب ويجب).

المفردة إياها أيضا هي المفضلة عند معظم مؤلفي الكتب المدرسية والجامعية وبخاصة تلك التي طبعت في وزارتنا لطلاب المراحل العامة أو تلك التي طبعت لطلاب الدراسات الجامعية وبالذات في مصرنا الغالية وبذا ترسخت في ذهنية المتعلم لتكون سلاحه الأول والأساسي حين تعييه الحجة العلمية فيهرع في إجاباته على الامتحانات وفي مقالاته وواجباته الأسبوعية إلى ما يجب وما لا يجب حتى تضيع ملامح الإجابة في هلاميات ما يجب لا ما يحدث فعلا أو ما يرى أنه يمكن أن يكون حلا ناجعا لموقف دراسي!، وهناك أمثلة صارخة لإجابات الطالبات بفعل ال(يجب) المقدس هذا؛ فتسأل مثلا ما دور المعلمة في مواجهة موقف سلوكي معين داخل الفصل لتهرع الطالبة إلى ما يجب أو لا يجب دون أن تحلل مدى واقعية وقابلية هذا ال(يجب) للتطبيق وما هي النظريات المطروحة في هذا المجال ومدى قدرتها على تفسير سلوك ما.

وحين تتصفح التاريخ العربي بكل أحماله الفكرية والتراثية سنجد أن فكرة ال(يجب) هذه قد سيطرت على أساليب الكتابة لتعبر عن منهجية فكرية ترى أن ما يطرح من فكر يمثل الأعلى والأسمى ولا تناقش فكرة (وجوبيته). فمن أين جاءت هذه العلاقة العربية الحاسمة في توجيب وحتمية ما يقال على المستوى الرسمي والاجتماعي ويختفي تماما أو يفعل العكس على المستوى الشخصي؟.

لعب التراث الديني بكل قدسيته دورا كبيرا في إضفاء الكثير من هالات القدسية والتحريم التي جاءت مع النصوص الأصلية للقرآن الكريم وللسنة النبوية لكنها ومع تداخل التفاسير والشروحات للفقهاء والمفسرين أسقطت هذه الدرجة العالية من الصدقية والوجوب حتى لم تعد قصرا على الكتب المقدسة بل امتدت إلى الشروحات وشروحات الشروحات، وبتواري الحضارة الإسلامية اتخذ الكثير مما يطلق عليه كتابة عربية أشكالا مفرغة من المعنى ومن الفكر، وأصبح ترديد المقولات المفرغة من معناها الاجتماعي والأخلاقي هو السائد إلى الدرجة التي تزعزعت فيها علاقة الإنسان العربي بالكلمة الصادقة رغم أطر التهويل والتحريم التي ظلت تؤطر بها ليس في الأصول بالطبع (الكتاب والسنة) بل في كل ما يطبعه مجتهدٌ أو عالم ٌ أو مرب ويتم نقله عبر وسائط المعرفة من إعلام ومطابع ومدارس وهو الذي يردد أنه يجب ويجب ويجب؟، ولكن هل نعرف ماذا علينا أن نفعله أولاً قبل أن نصل إلى مرحلة ال(يجب)؟.

وعبر عالم من الترديد والتلقين والتكريس المفرغ من المعنى تم تأصيل معنى ما يجب، وهكذا حين نوضع في إطار السؤال لأمر ما لم نعد نفكر في الموقف أو في ماذا نحتاج فعلا بل إن التفكير يتجه مباشرة لما يجب ويجب لأن هذا ال(يجب) هو ما يجب!، وهو ما يجب أن يسمعه الناس ويعرفونه باعتباره النسخة الاجتماعية المقبولة، وتدريجيا يتم تدريب عقولنا على استخدام اللغة لا كأصوات محملة بالمعنى الذي يتداخل في عقلنا ويعبر عنا قدر ما يصبح مجرد أصوات مفرغة لا تحمل دلالاتها اللغوية العميقة وهذا ما يؤدي إلى خلق كل هذه الشخصيات المتناقضة داخل الإنسان الواحد.. فهاهم يقابلونه في الإخبارية ويسألونه عن رأيه في مستوى الخدمات الصحية المقدمة في مدينته، وهاهو يهز برأسه مردداً (كلش زين الله يطول عمر الحكومة ما قصرت) طيب ما رأيك في مستوصفات المناطق والقرى.. ما قصروا بس لازم الناس تحترم اللي تعطيها الحكومة وما تخربها (ماذا عن خراب الأجهزة وسوء تدريب الأطباء أنفسهم وضعف مهاراتهم السريرية وتدني مستوى الخدمات المساندة.. والشهادات المزورة ...الخ).

وهاهو الشاب الراكض للحياة يسألونه في الإخبارية عن المعاكسات في المجمعات التجارية وهو يدينها بشدة (هل يؤمن بذلك حقا وإلى هذه الدرجة) ثم هو يبدأ في ترديد مقولات ال(يجب) المحببة: حنا بلد إسلامي والواجب علينا حماية بناتنا والشاب لازم يحترم قوانين البلد... وتراه يخرج من وجه الكاميرا ليذهب في مطاردة شرسة لسيارة فتاة في شارع التحلية أو على كورنيش جدة!.

بالتدريج لم يعد الأمر بالنسبة لنا أصواتا فقط إنها تبدأ بالتأصيل كمنهج عقلي وفكري يعتمد النقل وعدم التريث والتفكير في الكلمة المطروحة أو المكتوبة، إن التفكير يعني البحث وتعميق المعرفة ثم اختيار موقف بناء على هذه القناعة، في حين وفي خضم رحلتنا نحو تخوم (ما يجب) تم تدجيننا لنتحدث بأصوات المؤسسة الاجتماعية والثقافية والدينية الحاضرة دائما أمامنا لنردد في غياب شبه كامل ما تقوله وتؤمن به ونردد معها ما يجب أو لا يجب بغض النظر إذا ما كان هذا فعلا يمثل ما نؤمن به أو يعبر عن قناعتنا الفعلية التي يمكن لنا أن نعيشها ونمارسها.. ووسط هذا الهذيان الجماعي نسافر داخل قوافل اللا تفكير لتحملنا إلى جزر الاغتراب والتشوه الذاتي والاجتماعي ونعود بعدها نسأل أين غادرتنا ذواتنا الطفولية ومتى افتقدنا البوصلة؟.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال, أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة (5148) ثم أرسلها إلى الكود 82244




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد